يُعتبر مؤتمر ميونيخ للأمن تقليدياً المكانَ الذي تحتفي فيه بلدان حلف شمال الأطلسي (الناتو) بوحدتها وبتضامن تحالفها. كما يُعد المؤتمر بمثابة «دافوس القضايا الاستراتيجية»، منتدى عالمياً حيث يلتقي الزعماء والصحافيون والخبراءُ وحيث يقدم كل واحد رؤيته للعالم. الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يحضر نسخة هذه السنة، ونائبه مايك بنس هو الذي جاء إلى ميونيخ لتمثيل الولايات المتحدة. بنس، وبعد أن استعرض حصيلة الرئيس، توقف لحظة أملاً في تصفيقات، لكن صمتاً ثقيلاً خيم على القاعة بطريقة مزعجة بما يدل على تدني شعبية قاطن البيت الأبيض في مثل هذه المحافل الدولية.
موقف يذكّر بالضحكات التي رافقت خطاب ترامب خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الخريفَ الماضي. في نيويورك، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الذي تولى الرد على ترامب، لاعباً دور المدافع عن تعددية الأطراف أمام الأحادية الأميركية. غير أنه نظراً لاحتجاجات السترات الصفراء، اضطر ماكرون للتغيب عن مؤتمر ميونيخ. وبالتالي، فإن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هي التي اضطرت للعب دور المعارض الأول لترامب هذه المرة. وهذا أمر دال ولافت بالنظر إلى أن ثمة تقليداً قديماً حيث يكون الرئيس الفرنسي معارضاً للرئيس الأميركي -كما كان يفعل ديغول وميتيران وشيراك- لكن ليس المستشارة الألمانية.
وتاريخياً، تعد ألمانيا منذ بداية الخمسينيات الحليفَ الأول للولايات المتحدة في أوروبا. فخلال كل الحرب الباردة، كانت الحماية الأميركية هي التي سمحت بالحفاظ على استقلال ألمانيا المهددة من قبل الاتحاد السوفييتي. وبالمقابل، كان الألمان يدعمون المواقف الأميركية على الصعيد الدبلوماسي. وكان أول استثناء في 2003، عندما ندّد المستشار شرويدر، رفقة شيراك، بغزو العراق ذلك العام. وقتها لم يعد الاتحاد السوفييتي موجوداً، وكانت ألمانيا تشعر بأنها صارت أقل اعتماداً على الحماية الأميركية، وبالتالي أكثر حرية في إعلان معارضتها في الحالات التي يكون فيها تباعد كبير في وجهات النظر. ولاحقاً حدثت مصالحة تامة، وخاصة بالنظر إلى حقيقة أن باراك أوباما نفسه كان من المنتقدين لحرب العراق. غير أنه لم يسبق أبداً لألمانيا والولايات المتحدة أن بلغتا مثل هذا المستوى من الانقسام.
واليوم يبدو أن ألمانيا والولايات المتحدة باتتا متعارضتين حول كل شيء. فمنذ بعض الوقت، يشعر الزعماء الألمان بالانزعاج لأن ترامب لا يبدي احتراماً كبيراً للأوروبيين. ذلك أن تصوره للسياسة الخارجية تجاههم يقوم عموماً على اتخاذ قرارات يخبرهم بها لاحقاً، والمطلوب من هؤلاء هو احترامها وتنفيذها بسرعة.
فبعد الانسحاب من اتفاق باريس لمكافحة الاحتباس الحراري، جاء نقل مقر السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والسحب المتسرع للقوات الأميركية من سوريا دون مفاوضات، والرغبة في حظر كل العلاقات التجارية مع إيران، والانسحاب من المعاهدة حول الصواريخ النووية المتوسطة التي وقعها ريجان وغورباتشوف في 1987 وأعطت إشارة نهاية الحرب الباردة.. ليزيد من التعارض بين الولايات المتحدة وألمانيا.
وفضلاً عن ذلك، فإن تهديدات واشنطن بفرض ضرائب أعلى على صادرات السيارات الألمانية يُنظر إليها أيضاً على أنها خطوة عدائية كبيرة، بالنظر إلى أن صناعة السيارات الألمانية توجد في صميم اقتصاد البلاد وازدهارها.
غير أن البريطانيين أيضاً أخذوا يبتعدون عن الولايات المتحدة في هذه المواضيع، وهو أمر لافت للانتباه لاسيما بالنظر إلى «العلاقة الخاصة» التي بين لندن وواشنطن.
والواقع أن ثمة هوة بين البلدان التي تُعد تاريخياً أعضاء في «الناتو»، بلدان أوروبا الغربية والولايات المتحدة، لكن ثمة أيضاً هوة داخلية في أوروبا، بين البلدان الغربية وبلدان أوروبا الشرقية التي تظل وفية لواشنطن. لكن ماذا سيحدث؟
ضفتا المحيط الأطلسي تزدادان تباعداً بين أوروبا والولايات المتحدة، لكن الانقسام بين الشرق والغرب الأوروبيين، الذي انمحى في نهاية الحرب الباردة، عاد للظهور مرة أخرى بشكل جديد.

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية -باريس