قد يكون مجتمع ما -وفقاً لمعايير وقتنا الحاضر- متحضراً ولكنه غير متسامح! والعكس صحيح. وفي حقيقة الأمر فالتسامح أمر فردي وجماعي في نفس الوقت، ولطالما وجدنا أن درجة التسامح تختلف بين أفراد الأسرة الواحدة، وتتفاوت درجة تطبيقه وسلوكياته في حياة الفرد وفق متغيرات الظروف والحالة النفسية وغيرها من المعطيات.
ولن يكون كافياً لتحقيق التسامح في أي مجتمع أن نغرس بذوره الأساسية لكي ينمو ويزدهر كسلوك عام بوضع السياسات والاستراتيجيات التي تعزّز التسامح، واحترام التعددية الثقافية ونبذ العصبية والكراهية والتطرّف، فضلاً عن نشر المبادرات والبرامج التي تعزّز التسامح وتنشر قيمه ومبادئه محلياً وإقليمياً ودولياً، فلا بدّ بالإضافة إلى هذا كله، من مواجهة التحديات التي تقف حجر عثرة أمام المجتمع، وربما تعرقل تطوره بحيث يصبح متبنياً ككل لثقافة التسامح، وأن يكون لدى أفراده قبول عالٍ للآخر، حيث إن العالم اليوم بالرغم من كل التقدم المادي والمعرفي، هو أكثر تعصباً ممّا مضى، وضيق الأفق هي الصفة السائدة مجتمعياً.
فلا يمكن التغلّب على جميع الصراعات والمشاكل والتحديات عموماً في الحياة، وهناك أمور لا حل لها ويجب أن نتعلّم كيفية التعايش معها، وأن نجد البدائل التي تجعل قبول تلك التحديات كمخاطر جزءاً من حياتنا اليومية، ومن الضرورة أن نتبنى قنوات إقامة حوار دائم مع جميع الأطراف المتأثرين بالمشكلة الدائمة، وكسر حاجز الجمود الذي نجحت فيه الكثير من المجتمعات وأصبحت أكثر تسامحاً من غيرها، حيث لم يتم الهروب من مواجهة الواقع وتم التعامل معه بإيجابية، والبداية تكون في التركيز على مصطلح «القبول» بدلاً من «التسامح»، حيث إننا قادرون على الاختلاف مع شخص وهو «التسامح»، بينما أن نقبلهم ولا نقصيهم يتطلّب منا التفكير والتحليل والاطلاع، والجلوس مع النفس والمراجعة الذاتية والجماعية، حيث يحدث القبول عن قناعة وهو المستدام على عكس التسامح الذي نجاهد فيه النفس، أو نخضع لسلطة القانون والخوف من العقاب، إذا لم نكن متسامحين، وتبقى جذور المشكلة قائمة وهنا يكون التسامح أقرب إلى الإحسان.
وقد تكون قيم المجموعة حجر عثرة أمام تقييم الوضع بعقلانية، وهو ما قد يتطلّب منا تغيير مفهوم من نحن ومن نكون وهو أمر في غاية الصعوبة، حيث تبرز مخالب ثقافة العيب والعار التي تكبّل التعاطف مع الآخر وإنْ كان على حق ونحن على خطأ، حيث يكون العيب مطلقاً والشعور المؤلم بشدة بالاعتقاد بأننا معيبون، وبالتالي لا نستحق القبول والانتماء، والعار هو كيف نرى أنفسنا في عيون الآخرين والخوف من اللوم، وإن كان ما نقوم به ليس ضد الدين والأطر العامة الجامعة للأخلاق، وهنا يبدأ التمييز لمن يخرج عن خط المجتمع المرسوم له وإن كان يدعو للكراهية والتطرّف، وبدلاً من تشجيعنا على قبول الآخرين فإننا نتمسك بأهمية التسامح.
فالانتماء إلى المجتمع الإنساني الأوسع -سواء كان ذلك عن طيب خاطر أم لا- هو الفرق بين القبول والتسامح، على أن نبدأ بوقف المفردات والألفاظ العرقية والإقصائية والشعوبية التي لا يدينها القانون لكونها جزءاً من أعراف المجتمع، وهي كلمات دارجة في العرف المحلي، لكنها في حقيقة الأمر من أسباب الكراهية والغلو والتعصب في المجتمع.
كما يجب أن يتم تدريس «القبول» في المدارس في جميع المراحل، وهذا يتطلب تدريب الطاقم التعليمي على تلك المهارات، وتشديد الرقابة على كل وسائل الترفيه في شتى الوسائل والتي تتخفّى في طياتها الكثير من رسائل عدم القبول والتسامح، ناهيك عمّا يزرعه الأهالي في عقول أطفالهم من شعور بالعنصرية والفوقية وعدم ملاحقتهم قانونياً على ذلك وخاصةً في المدارس، والخوف من الوقوف وقفةَ شجاعة وبدء المحاكمات والمراجعات العلنية للفكر والعلم والتاريخ والتفسيرات والمطبوعات الدينية التي تنشر الكراهية. وعندما نتحدث عن التسامح، فمن الضروري التركيز على أنه لا يعني عدم الافتقار إلى الالتزام بالمعتقدات الخاصة، بل إنه يدين القمع والاضطهاد للآخرين، وبدلاً من الحديث عن التسامح كن متسامحاً فعلاً وليس قولاً أيها المسؤول أو المدير.
ولعدم تجذير السلوك غير المتسامح، فإنه يجب علينا أن نحتفل بالتنوع والتعدّدية في المجتمع في كل مناحي الحياة، حيث إن الغالبية منا تمتلك من الأحكام المسبقة والأفكار المبرمجة ما يكفي لهدم جسر التسامح المزمع بناؤه. ولذلك فالمجتمع ككل يحتاج لإعادة برمجة يلازمها الصبر الطويل لحين الوصول لنتائج تكفل احترام كرامة الإنسان، والحفاظ على موقف عادل تجاه أولئك الذين تختلف آراؤهم وممارساتهم عن آرائنا وممارساتنا، طالما أن هذه الآراء لا تُستخدم للتحريض على العنف أو السلوك غير القانوني.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات