استعدتُ سنوات مضت أثناء حضوري احتفال مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بيوبيله الفضي، وقابلت زملاء عمل فرقت بيننا الأيام التي طالت، ورأيتُ في وجوههم التي رسم الزمن عليها خطوطه القاهرة، وفي رؤوسهم التي اشتعلت شيباً، كم كبرنا جميعاً، وكم مر من الوقت على هذه المؤسسة البحثية الكبرى وهي تمضي في طريقها، واقفة على أكتاف ما أنتجته عقول متنوعة من أبحاث ودراسات وكتب ورؤى وتصورات وتقديرات مواقف وتوصيات وخلاصات خدمت البحث العلمي، وصناع القرار بدولة الإمارات العربية المتحدة، وقدمت إجابات مستفيضة على تساؤلات توالت مواكبة للوقائع والأحداث التي شهدها العالم على مدار ربع قرن.
عملت أربع سنوات بالمركز امتدت من 1998 إلى 2002، وغادرته عائداً إلى القاهرة، لكن صلتي به لم تنقطع، إذ دعيت إلى ندواته ومحاضراته ومؤتمراته غير مرة، وقدمت دراسات وأوراقاً بحثية نشرت في بعض سلاسله، وترددت كثيراً على مكتبته العامرة بالكتب الجديدة والمفيدة خلال زياراتي المتقطعة للإمارات، ووجدت فيها ما أريد من كتب كنت أحتاج إليها أثناء كتابتي لبعض أبحاثي، لكن الزيارة الأخيرة التي حضرت فيها حفل اليوبيل الفضي كانت مختلفة، لأني شعرت فيها أنني كنت واحداً ممن ساهموا، ولو قليلاً، في رحلة عطاء هذه المؤسسة البحثية التي صارت لها مكانة دولية، صنعها اهتمام المركز بالقضايا الحيوية، ومواكبته للتطورات التي شهدها العالم، ليس في مجال مناهج البحث والدرس في العلوم الإنسانية فحسب، إنما أيضاً في الأحداث السياسية التي تدفقت بلا هوادة في العقدين الأخيرين.
طيلة ربع قرن انشغل مركز الإمارات بثماني قضايا أساسية هي: استشراف المستقبل، وتعزيز دور التعليم في التنمية بمعناها الشامل، وترسيخ فهم السياسات الدولية والإقليمية المتعلقة بدولة الإمارات العربية المتحدة ودول الخليج ثم العالم العربي ودول الجوار، وتقديم الرؤى والتصورات الخاصة بالسياسات الدفاعية الخليجية، وفحص ما يرتبط بالطاقة على اعتبار أنها مسألة حيوية بالنسبة للعالم أجمع، ودول الخليج العربي على وجه الخصوص، وبحث دور التقنيات في الحياة الاجتماعية، وفتح الطريق أمام فهم أكثر رسوخاً لقيمتي الإبداع والابتكار.
ومنذ انطلاقه في مارس من عام 1994 والمركز يعمق تخصصه في أربعة حقول معرفية: السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم العسكرية، واصلاً ما بينها من فروع وروافد جعلته يراكم دراسات متعددة حوتها سلاسل الكتب التي أصدرها وترجمها، في زمن عاد فيه البحث العلمي من التخصصات الفرعية الدقيقة إلى الدراسات عبر النوعية، وهي مسألة لم يهملها المركز، ما يدل عليه تنوع الخلفيات التعليمية للخبراء والباحثين الذين تعاقبوا على العمل فيه منذ أول لحظة لإنشائه وحتى الوقت الراهن.
ولعب المركز دوراً مهماً في جذب نخبة سياسية مرموقة لإلقاء محاضرات به، من بين أبرز زعماء الدول ورؤسائها والمفكرين والخبراء ذوي الصيت العالمي، وفي الوقت نفسه أفاد النخبة السياسية والعلمية الإماراتية بإتاحة الفرصة لها للاستماع وقراءة المنتج المعرفي لمدارس بحثية مختلفة من جميع أنحاء العالم، وهي مسألة انعكست إيجابياً على دراسة العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالجامعات الإماراتية بوجه عام.
وقد عكست الكلمات التي ألقيت خلال الحفل هذا الفهم تماماً، كما ثمنت الجهد الذي يبذله المدير العام سعادة الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي، الذي كان يعمل أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الإمارات قبل أن ينتقل لإدارة المركز، وهو حالياً على رأس خبرائه وباحثيه، بعد أن توالت كتبه في علم السياسة، فضلاً عن أنه كاتب بارز بجريدة «الاتحاد»، كما ثمنت العطاء المتواصل لباحثي المركز وإدارييه بما جعله يحافظ على مكانته، في وقت صار انهيار المؤسسات التي يبزغ نجمها ثم سرعان ما يأفل أحد مظاهر حياتنا العلمية والاجتماعية.