في الأول من فبراير الماضي، أعلنت إدارة ترامب قرارها الانسحاب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى. وفي اليوم التالي، حذا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حذوها. وبذلك تبدأ فترة تفاوض مدتها ستة أشهر، يمكن أن تحاول خلالها واشنطن وموسكو حل خلافاتهما قبل الانسحاب الكامل، لكن يبدو من المستبعد أن تتمكنا من التوصل إلى أي حل.
وربما تكون هناك منافع استراتيجية من التخلي عن المعاهدة، فروسيا انتهكت بالتأكيد بنودها خلال العقد الماضي، والطرف المتبقي في أية معاهدة انتهك الطرف الآخر بنودها قد تكون خياراته محدودة. وهناك أيضاً الصين، وهي غير موقعة على الاتفاقية، ومن ثم لديها حرية تطوير أسلحة لا يمكن لأميركا أو روسيا تطويرها. ويشكل ذلك مبعث قلق بالنسبة للأميركيين والروس على السواء.
ورغم ذلك، سيؤدي انسحاب الولايات المتحدة إلى إضعاف موقفها وموقف حلفائها الغربيين في وقت تعاني فيه تحالفاتها من توترات. وفي ضوء تلك التوترات، من المرجح أن تنهار المعاهدة بلا رجعة. ولن تكون هناك خيارات سوى خوض سباق تسلح غير ضروري.
ويرجع ذلك إلى أن المعاهدة، التي جاءت كرد على العودة إلى سباق التسلح في نهاية الحرب الباردة، ارتكزت على وحدة الدول الغربية. وفي حين جرت المناقشات في حينه بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فإن نجاح نتيجتها مرده إلى وحدة التحالف الغربي والمشاورات الجادة حول الحد من التسلح الذي جرى داخل حلف شمال الأطلسي «الناتو».
والمعاهدة الموقعة في عام 1987 خرجت من رحم جدل بشأن نشر جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق لصواريخ من طراز SS-20 في عام 1987. وخدمت تلك الصواريخ هدفين استراتيجيين للاتحاد السوفييتي: الأول أنها وسّعت نطاق الترسانة السوفييتية، والثاني: أنها أضعفت العلاقات بين دول «الناتو»، ومن ثم التحالف نفسه. ويرجع ذلك إلى أن الصواريخ قصيرة المدى لم تكن تهدد سوى القارة الأوروبية. ونجحت استراتيجية موسكو في البداية، ففي حين أراد القادة الأوروبيون رداً فورياً من «الناتو»، قلّل صناع السياسة الأميركيون من التهديد، ومن ثم عانى التحالف نتيجة لذلك.
واستغرق الأمر أكثر من ثلاثة أعوام لكي يتغلب حلف «الناتو» على الخلافات. وفي عام 1979، اتخذ التحالف قرار «المسار المزدوج» الذي ردّ على الصواريخ السوفييتية من خلال التخطيط لنشر صواريخ أميركية متوسطة المدى في عدد من الدول الأوروبية وعرض إجراء مفاوضات من أجل الحد من التسلح على هذه الفئة من الأسلحة.
وكما كان متوقعاً، أغضب قرار المسار المزدوج القادة السوفييت، الذين رفضوا في البداية التفاوض إلى أن يتراجع حلف «الناتو» عن عزمه نشر الصواريخ. لكن «الناتو» مضى قدماً على أية حال.
وعندما اجتاح الاتحاد السوفييتي أفغانستان بعد أسبوعين، تدهورت العلاقات بين الشرق والغرب، وحادت جهود الحد من التسلح عن مسارها. وباعتبار أن توجيه ردّ موحد على ذلك العدوان كان ضرورة، أنشأ قادة حلف «الناتو» مجموعة تشاورية خاصة من أجل تسهيل المناقشات بشأن احتمالات الحد من القوى متوسطة المدى.
وأتت هذه الاستراتيجية أكلها؛ ففي يوليو 1980، عندما وافق السوفييت أخيراً على إجراء محادثات، كانت المشاورات داخل «الناتو» قد تعززت بالفعل. ومع إصدار الرئيس رونالد ريجان المنتخب حديثاً تصريحات حادة، كانت المجموعة التشاورية الخاصة قد برهنت على أهميتها كوسيط بين القوى المتحالفة. ومع صعود النزعة المناهضة للقوى النووية في أوروبا، طلب الأوروبيون التزاماً جاداً تجاه الجزء المتعلق بـ«الحد من التسلح» في «المسار المزدوج» لتقييد الرغبة السياسية في نشر أسلحة جديدة.
ولم يتغير الوضع حتى عام 1985 مع انتخاب ميخائيل جورباتشوف أميناً عاماً للحزب الشيوعي، حيث بدأ السوفييت مفاوضات جديدة قادت إلى قمة «ريكجافيك» التي حققت نجاحاً في عام 1986، وتمخضت في العام التالي عن معاهدة القوى النووية متوسطة المدى.
وتفاوض السوفييت، من موقف ضعف، في ظل أزمة قيادة، حيث كان جورباتشوف ثالث قائد سوفييتي منذ وفاة ليونيد بريجينف في 1982، ومشكلات اقتصادية هائلة، بينما عززت الولايات المتحدة موقفها من خلال التعاون بين أعضاء «الناتو» خلال تلك السنوات.
ولا بد أن يُفكّر أي طرف يرغب في الانسحاب اليوم ملياً، في ضوء حجم الجهود التي تطلبها الأمر للتفاوض على المعاهدة، والمواقف النسبية للمشاركين. فقد مكّنت القيادة الغربية المتحدة الولايات المتحدة من النجاح في مواجهة السوفييت في جنيف.
أما إدارة ترامب فعملت على تقويض تلك الوحدة خلال الفترة الرئاسية الراهنة، من خلال الانتقاد العلني لحلفاء «الناتو» والافتقار الصريح للتشاور بشأن عدد من القضايا المهمة.
وعلاوة على ذلك، لا يتمتع القادة البارزون داخل «الناتو» بالقوة النسبية لسابقيهم. ويواجه ترامب تقريراً مرتقباً من المستشار الخاص «روبرت مولر»، وتتشبث رئيسة الوزراء البريطانية «تريزا ماي» بالسلطة مع محاولة بلادها إدارة عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، وأعلنت أنجيلا ميركل بالفعل عزمها التنحي من المستشارية الألمانية، وهو ما أدى إلى التشكك في قدرة بلادها على لعب دور قيادي في «الناتو» مستقبلاً.
لذا، فإن رغبة إدارة ترامب في التخلي من جانب واحد عن معاهدة القوى النووية متوسطة المدى يجعل العالم أقل أمناً.

*مؤرخ ومستشار تعليمي في بوسطن
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»