تمضي دولة الإمارات العربية المتحدة قُدُماً، وبخطى واثقة، في مسارها الطموح نحو المستقبل المشرق الذي تنشده لنفسها وأبنائها، عبر خطط واستراتيجيات طموحة تستهدف وضع الدولة في قلب التحولات التي يشهدها عالمنا اليوم في عصر الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي، وكسب سباق التنافس، المستَعِر بين الدول المتقدمة والصاعدة على السواء، في امتلاك قوة العلم والمعرفة، بصفتها المحرك الأهم للتنمية والتطور والرخاء في وقتنا الراهن، وفي المستقبل المنظور. وقد سبق أن تناولتُ في مقالات ودراسات سابقة لي موضوع الثورة الصناعية الرابعة، وتأثيراتها المحتمَلة، وجهود دولة الإمارات العربية المتحدة في هذا المجال، ولكني في هذا المقال سأركِّز على جانب آخر مهم من هذا الموضوع، يتعلق بمستقبل دولتنا العزيزة، وطموحها المشروع إلى تصدُّر دول العالم في مجالات التنمية والتطور كافة، وهو ذلك المتصل بجانب التنمية المجتمعية، وكيفية إعداد المجتمع الإماراتي لعصر الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي، فنحن لا تنقصنا الإرادة السياسية، حيث حبانا الله، عز وجل، بقيادة سياسية حكيمة تملك من الرؤية والطموح والإرادة ما يكفي لصنع المعجزات، ولكننا قد نكون بحاجة إلى وعي أكبر وتحرك أكثر فاعليةً على المستوى المجتمعي لمواكبة هذا الطموح الذي تملكه القيادة الرشيدة.
إن التنمية المجتمعية التي أعنيها في هذا المقال هي تلك الجهود التي تستهدف الارتقاء بقدرات كل فئات المجتمع وأفراده، وتوظيفها بصفتها أداة فاعلة لتحقيق أهداف هذا المجتمع في التنمية الشاملة، والتحول إلى مجتمع جديد يتوافر لأفراده التمتع بنوعية حياة أفضل ممَّا هم عليها، وهي بهذا المعنى عملية مستمرة لا تتوقف، ولاسيما في المجتمعات النابضة بالحياة، والتي ترنو دائماً إلى الأفضل، وتتطلَّع إلى المستقبل، كما أنها عملية شاملة بمعنى أنها لا تقتصر على فئات محدَّدة أو أعداد قليلة من أفراد هذا المجتمع، وإنما تشمل مختلف فئات المجتمع وأفراده.
الإنسان جوهر التنمية
إن عملية بناء الإنسان وتنمية قدراته ومهاراته بما يحقق أهداف المجتمع هي جوهر التنمية المجتمعية وأساسها، وهذه العملية كانت، ولا تزال، الغاية الأسمى لأي مجتمع يسعى إلى التطور والحداثة، وكانت هي الأساس الذي بنت عليه دولة الإمارات العربية المتحدة تجربتها التنموية الرائدة، حيث كان القائد المؤسس المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، يؤمن بأن الإنسان هو الثروة الحقيقية للوطن، وكان، رحمه الله، يكرِّر مقولته الخالدة «إن بناء الإنسان مقدَّم على بناء العمران»، لأنه مهما امتلكت الدولة من ثروات، فإن قدرتها على تعظيم هذه الثروات أو هدرها تتوقف على العنصر البشري الذي يمثل أداة التنمية وهدفها، وهو النهج نفسه الذي تسير عليه قيادتنا الرشيدة، حفظها الله، وتعمل على تعزيزه عبر الاستثمار في العنصر البشري المواطن، وتأهيله، وتطوير قدراته، ليكون قادراً على قيادة مسيرة التنمية إلى آفاق أرحب في المستقبل.
ومثلما كان بناء الإنسان هو الأداة التي تمكَّنت بها دولة الإمارات العربية المتحدة من تحقيق نقلتها الحضارية الكبرى من المجتمع التقليدي إلى مجتمع حديث يملك أثرى وأنجح تجربة تنموية تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وأجزاء كثيرة من العالم، فإن تحقيق الأهداف الطموحة لدولتنا الحبيبة في قيادة التحولات التنموية بالمنطقة، وحتى على المستوى العالمي، في عصر الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي، سيعتمد بصورة أساسية كذلك على مواصلة جهود بناء الإنسان الإماراتي، وتحقيق التنمية المجتمعية بشكل عام، بالشكل الذي يسهم في إعداد المجتمع وتجهيزه، ليس للتعامل مع التجليات والتأثيرات التي ستفرزها هذه الثورة المعرفية الجديدة فقط، وإنما للمشاركة في صنع هذه الثورة وتوجيه مساراتها أيضاً.
التعليم أولاً
وفي هذا السياق يمكن طرح مجموعة من الأمور، التي أرى أن الاهتمام بها جوهري في تحقيق التنمية المجتمعية، وإعداد المجتمع الإماراتي لعصر الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي. أول هذه الأمور، وأهمها، هو التعليم، فهو المجال أو الأداة التي يمكن من خلالها إحداث التغيير في أي مجتمع، وتأهيل أفراده ليكونوا قادرين على نقل هذا المجتمع من مرحلة حضارية إلى مرحلة حضارية أخرى أكثر تقدُّماً وتطوُّراً. وتشير كل تجارب التنمية الرائدة في العالم إلى أن تطوير التعليم كان هو المحرك الأساسي لعملية التحول التي شهدتها المجتمعات التي قادت هذه التجارب، حدث ذلك في تجربة ماليزيا مع مهاتير محمد، وفي تجربة سنغافورة مع لي كوان يو، وحدث في كوريا الجنوبية واليابان والصين، وفي دول كثيرة غيرها كان تطوير التعليم هو طريقها نحو تغيير المجتمع ونقله من مرحلة الفقر والعوز إلى مصافِّ الدول المتقدمة. كما حدث ذلك في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث كان اهتمام القيادة الإماراتية الرشيدة، منذ بداية عهد التأسيس على يد المغفور له، بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، بنشر التعليم وتطويره عاملاً مهماً من عوامل نجاح التجربة التنموية الإماراتية.
ولا خلاف على أن القيادة الإماراتية الرشيدة تضع قضية التعليم في مقدمة أولوياتها للإعداد لعصر الثورة الصناعية الرابعة، وهو الأمر الذي جسَّدته الكلمات التاريخية لسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، في القمة الحكومية بدبي عام 2015، عندما أكد أن «رهاننا الحقيقي في الفترة المقبلة هو الاستثمار في التعليم»، وبرغم ذلك يجب الاعتراف بأن هناك فجوة ليست بالقليلة بين طموحات القيادة الرشيدة، وواقع المنظومة التعليمية، فلا أعتقد أن جامعاتنا ومدارسنا، بواقعها الحالي، تستطيع تخريج الأجيال المؤهَّلة علمياً وتكنولوجياً، والقادرة على الاندماج والتكيُّف مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، فضلاً عن قيادتها.
مهارات الثورة الصناعية الرابعة
إن منظومة التعليم في دولة الإمارات العربية المتحدة، برغم جهود الارتقاء بها وتطويرها، لا تزال بحاجة إلى «ثورة» شاملة في مناهجها، وأساليب التدريس المتَّبَعة فيها، وآلياتها لاكتشاف المبدعين والمبتكرين، فحتى يومنا هذا لا تزال نظمنا التعليمية تركِّز على تخريج أجيال تبدو ملائمة لأسواق العمل الحالية والوظائف المتاحة الآن، في حين يؤكد الكثير من التقارير الدولية أن أكثر من نصف الوظائف القائمة الآن ستختفي في المستقبل القريب، وستحل محلها وظائف جديدة ترتبط بعالم الاقتصاد المعرفي والذكاء الاصطناعي ومجالات تكنولوجيا المعلومات، وهو ما يعني أن نسبة كبيرة من الطلبة الحاليين قد ينضمون إلى أعداد العاطلين عن العمل مستقبلاً. وحتى الآن لا نزال نعتمد، بصورة أو بأخرى، على أساليب التلقين والحفظ، التي لا تستطيع أن تخرِّج أجيالاً تملك المهارات اللازمة لعصر الثورة الصناعية الرابعة، والتي تركز على اكتساب مهارات التفكير النقدي والابتكار والإبداع والقدرة على طرح الحلول، وغير ذلك من الأمور التي أثق تماماً بأن الجهات المعنية بالتعليم في دولتنا العزيزة تعكف على تطويرها بجدِّية، استناداً إلى قناعة تامة بأن انطلاق دولة الإمارات العربية المتحدة إلى عصر الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي لا بدَّ أن يمر عبر بوابة تطوير التعليم.
دور المرأة
الأمر الثاني يتعلق بالنظرة المجتمعية إلى مكانة المرأة ودورها في الحياة العامة، وهنا يجب الاعتراف بأن القيادة الإماراتية الرشيدة، منذ عهد المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، تملك مواقف ورؤى أكثر تقدماً من المجتمع بشأن أهمية تمكين المرأة، وتعزيز دورها في الحياة العامة. وقد انعكست هذه المواقف والرؤى بالفعل في الكثير من السياسات والاستراتيجيات التي أقرتها الدولة، والتي نجحت بالفعل في جعل تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، في مجال دمج المرأة وتمكينها، من أكثر التجارب الإقليمية نجاحاً وريادة. والمؤشرات إلى ذلك كثيرة، ولا يتسع المقام لذكرها هنا.
ولكن ما يهمني في هذا المقال هو أن هناك بعض التوجهات التي لا تزال قائمة في المجتمع، للأسف الشديد، والتي تضع قيوداً على تحقيق الاندماج الكامل للمرأة في المسيرة التنموية، وتحاول أن تحصر دورها داخل جدران منزلها، إما استناداً إلى تأويلات دينية مغلوطة، تجاهد الدولة من أجل تصحيحها من خلال إصلاح الخطاب الديني، وإما استناداً إلى عادات وتقاليد اجتماعية تجاوزتها منظومة الحداثة في الدولة والمجتمع. والأمر الجيد هنا أن هذه التوجهات السلبية في المجتمع تجاه تمكين المرأة ودورها في التنمية والعمل تتراجع بصورة كبيرة، حتى أصبحت ابنة الإمارات تشكل ركنا مهماً في مسيرة التنمية التي نشهدها في جميع مراحل العمل الوطني ومجالاته، وإن كان ذلك لا يقلِّل من أهمية تكثيف العمل لتذليل بعض العقبات المجتمعية، التي لا تزال قائمة أمام المرأة، حتى تكون مشاركتها في المسيرة التنموية كاملة وفاعلة، لأن الدولة في حاجة ماسَّة إلى مساهمة كل عنصر بشري فيها في سياق توجهها نحو عصر الثورة الصناعية الرابعة.
ثقافة الإبداع والابتكار
الأمر الثالث يرتبط بأهمية ترسيخ ثقافة الإبداع والابتكار في المجتمع. فكعادتها لم تقصِّر دولة الإمارات العربية المتحدة، على المستوى الرسمي، في العمل على تكريس هذه الثقافة وترسيخها من خلال طرح المبادرات والاستراتيجيات والأفكار الرائدة. لكن دور المجتمع لا يقل أهمية في هذا الصدد، فالأسرة تتحمَّل قدراً كبيراً من المسؤولية عن صقل مهارات التفكير الإبداعي والابتكاري في الأطفال والنشء، واكتشاف مهاراتهم، وتنمية مواهبهم، فضلاً عن توجيه أبنائهم إلى المساقات التعليمية التي تلبِّي متطلبات عصر الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة. وتقع على عاتق مؤسسات الأعمال مسؤولية مهمة في دعم ثقافة الابتكار من خلال تبنِّي المبتكرين والموهوبين، وتنمية مهاراتهم، وتبني الأفكار المبتكَرة والإبداعية، وترجمتها إلى اختراعات وحقائق على أرض الواقع، ليستفيد منها المجتمع، فضلاً عن المساهمة في استقطاب الخبراء والمبتكرين والمبدعين من مختلف أنحاء العالم للاستفادة من أفكارهم وخبراتهم في هذا المجال، مثلما يحدث في الدول المتقدمة. وتمثل مبادرة «صندوق الوطن» تجربة متميزة في مجال المسؤولية المجتمعية للقطاع الخاص، يمكن البناء عليها في هذا المجال. وكذلك الحال بالنسبة إلى باقي مؤسسات المجتمع المدني والأهلي، لأن تحقيق التنمية المجتمعية وتكريس ثقافة الإبداع والابتكار في المجتمع هو مسؤولية المجتمع كله، وليس الحكومة وحدها.
الهوية الوطنية
الأمر الرابع يتعلق بالهوية الوطنية في عصر الثورة الصناعية الرابعة، فأحد التحديات التي طرحها عصر المعرفة والسماوات المفتوحة والتطور التكنولوجي تمثل في إزالة الحواجز بين الداخل والخارج، وزيادة علاقات التأثير الخارجي في المجتمعات الداخلية بدول العالم المختلفة، بحيث أصبحت قضية مهمة، مثل الهوية الوطنية، عرضة لاختراقات وتأثيرات خارجية عدَّة، وقد تتفاقم هذه الاختراقات والتأثيرات في عصر الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي. وأخذاً في الاعتبار حقيقة أن الهوية الوطنية لأي مجتمع هي السياج الحامي له، والرابط الأقوى الذي يربط بين أفراده ومكوِّناته كافة، ويعزز نسيجه وتماسكه الداخلي، يصبح من الأهمية بمكان أن يتوازى الاهتمام، والتركيز على إعداد المجتمع لمتطلبات عصر الثورة الصناعية الرابعة، مع تعزيز الجهود الرامية إلى تعزيز قيم الهوية الوطنية، والانتماء الوطني، والولاء للقيادة الرشيدة، في نفوس أبناء المجتمع كافة، وعلى رأسهم فئة الشباب، التي عادة ما تكون أكثر عرضةً لمحاولات الاختراق والتأثير الخارجي، ولاسيما من القوى المناوئة والجماعات المتطرِّفة. ويرتبط بذلك تعزيز القيم المجتمعية الأصيلة في المجتمع الإماراتي، كقيم التسامح والتعاون والكرم والشجاعة والإيثار، وغيرها من القيم التي ترسَّخت في مجتمع الإمارات عبر التاريخ، فضلاً عن تنمية الإحساس بالهوية الإماراتية العربية الأصيلة، وربط الأجيال الجديدة بتراث بلادهم وثقافتها، بالتوازي مع الانطلاق نحو عصر الذكاء الاصطناعي.
إن دور المجتمع، بكل فئاته وأفراده ومكوناته، أساسي ولا غنى عنه في أي تحول حضاري تشهده أي دولة من الدول. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة كان المجتمع على الدوام داعماً ومسانداً لجهود قيادته الرشيدة في مسيرتها نحو تحقيق التنمية الشاملة، وحريصاً على إنجاح كل جهد أو تحرك أو مسعى إلى الانتقال من مرحلة تنموية إلى مرحلة أخرى أكثر تطوراً، وهذا المجتمع هو نفسه الذي سيسهم بفاعلية في تحقيق طموح دولة الإمارات العربية المتحدة في الانتقال إلى عصر الثورة الصناعية الرابعة، وقيادة مسيرة التحول الإقليمي في هذا العصر.