رغم أن «ستيف بانون» ترك منصبه في البيت الأبيض ككبير الاستراتيجيين للرئيس دونالد ترامب قبل أكثر من عام ونصف، فإن الظل الذي ألقى به على السياسة الغربية لم يتلاش بعد. فقد أصبح المصرفي الاستثماري السابق والرئيس التنفيذي لموقع «بريتبارت نيوز» الإخباري اليميني المتطرف، أحد أبرز الأيديولوجيين الداعين للترامبية ومؤسساً لعقيدة ربطت مذهب حماية مصالح المواطنين الأميركيين مع لغة الوطنية الأوروبية اليمينية المتطرفة، وهي عقيدة ساعدت على دفع ترامب تجاه فوزه الانتخابي الذي كان بعيد الاحتمال في عام 2016. وفي الأشهر التي تلت دسائس القصر التي أجبرته على مغادرة «الجناح الغربي»، ظل بانون قريباً من شخصيات داخل الإدارة وأكثر قرباً لعالم الصحفيين الذين يكتبون عنها.
وقام بانون بتوسيع علامته التجارية باعتباره متنبئاً ومثيراً للقلاقل عبر المحيط الأطلسي، حيث قدم الدعم لمجموعة من الأحزاب اليمينية ذات النزعة القومية المتطرفة والمناهضة للهجرة في جميع أنحاء أوروبا. وقد جذبت جولات الاستماع والخطب التي قام بها العام الماضي في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والمجر وأماكن أخرى، أعداداً كبيرة من الصحفيين الرئيسيين الذين وضعت قصصُهم بانون في قلب التمرد اليميني المتطرف الساعي لتفجير الوضع الراهن في الانتخابات البرلمانية الأوروبية المنتظرة في مايو القادم.
وفي ديسمبر الماضي، قال بانون لموقع بلومبيرج نيوز: «هذه الثورة الشعبوية القومية ظاهرة عالمية»، مضيفاً أن الانتخابات القادمة «لحظة تاريخية».
ويبدو أن بانون في بحث مستمر عن الأعمال الدرامية «التاريخية»، وعن طريق لتحديد مكانه داخلها. ويتتبع الفيلم الوثائقي الجديد «الحافة» الذي نال استحساناً كبيراً في المسارح عبر الولايات المتحدة، أنشطته في العام الذي أعقب خروجه من البيت الأبيض. وفي هذا الفيلم، نسمع بانون وهو يقتبس بشكل رائع «أبراهام لينكولن» بينما يحوم أعداؤه حوله. كما نشاهده وهو يدون بسرعة في هوامش إحدى الصحف «التهديد الثلاثي» الذي تشكله، لأسباب يستطيع بانون فقط التنبؤ بها، الصين وتركيا وإيران. كما نستمع إليه وهو يحتد غاضباً ضد الليبراليين في الغرب، المسرورين بـ«إدارة تراجع» حضارتهم.
ونشاهد أيضاً بانون وهو يتجرع كميات كبيرة من مشروبات الطاقة، ويزمجر في المساعدين، وفي مناسبات عديدة، يظهر ولعاً ساحراً بانتقاص الذات. ويقدم أسلوب «ذبابة على الجدار» لمخرجة الفيلم «أليسون كلايمان» صورة نادراً ما نراها لرجل وصفته مجلة «ذا تايم» ذات يوم بأنه «مناور عظيم»، صورة تبدد ببراعة أسطورة عبقريته السياسية.
«أعتقد أن الصورة التي تبرز له أكثر إنسانية بكثير، لكن بالطبع ليست ناعمة ومحبوبة»، بحسب ما أوضحت مخرجة الفيلم لكاتب هذا المقال. وقالت إن جهودها للذهاب «وراء الكواليس» تُظهر كيف أن أجندة بانون «أكثر تعقيداً في بعض النواحي»، ومدفوعة أحياناً برغبته الشخصية في نيل الاهتمام وضرورات مؤيديه الأثرياء. ولهذا السبب، كما تضيف كلايمان: «أعتقد أن بعض الناس يرونه كشخصية انتهازية». فمثلاً إصرار بانون على أن سياساته تركز على «القومية الاقتصادية»، هو رسالة شعبوية حول حماية الطبقة العاملة والحد من تجاوزات العولمة. وفي خطاب سياسي ألقاه أمام المانحين الجمهوريين، يستخدم بانون هذا الخط لرفض اتهامات بالعنصرية والتعصب غالباً ما توجَّه ضده، وضد ترامب والقاعدة القومية اليمينية التي يحتاجون لتأييدها.
لكن بعد أشهر من متابعة بانون في رحلات قام بها على متن طائرات خاصة وجلسات لجمع التبرعات الخاصة مع المليارديرات، خلصت كلايمان إلى أن شعبوية بانون الاقتصادية «هي نوعاً ما ممارسة ذات علامة تجارية». وفي اجتماعاته مع رعاة وسياسيين يمينيين متطرفين، قالت كلايمان إن بانون «لا يتحدث عن كيفية وضع سياسات تعيد وظائف التصنيع. لكنه يتحدث عن نسب المواليد وكيف نفوز في الانتخابات من خلال التحدث عن الدين».
وفي رحلة عبر لندن، نراه ينظر بيأس عند إخباره أن شارعاً بعينه «تحول» إلى شركات عربية في الغالب. ويشير بفرحة إلى أن شعبويين يساريين مثل «جيرمي كوربين» في بريطانيا أو السيناتور المستقل «بيرني ساندرز» في الولايات المتحدة، لا يلفتان الانتباه بشأن الهجرة، وهو أمر يعتقد أنه سيقلل من جاذبيتهما بين الناخبين من طبقة العمال. وفي غرف الطعام الفخمة بالفندق، يتذمر بانون ومجموعة من السياسيين اليمينيين المتطرفين الأوروبيين بشأن خطر الإسلام وتزايد أعداد المسلمين في بلدانهم.
ومن الصعب تجاهل الأصداء الأكثر إثارة للقلق لأيديولوجية بانون عقب المذبحة التي ارتكبها أحد المنادين بتفوق البيض، والتي تحركها مخاوف مماثلة، في كرايست تشيرش بنيوزيلندا مارس الماضي.
كما يُظهِر الفيلم حدود صلاحيات بانون. فنحن نشاهده وهو يتحمل ثلاث نكسات محبطة: حملة مجلس الشيوخ الفاشلة للمرشح الجمهوري المثير للجدل «روي مور» في ألاباما، والهزائم الساحقة التي لحقت بالحزب الجمهوري في مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي العام الماضي، وإخفاق محاولته لقيادة ائتلاف يميني متطرف في أوروبا.
ومع ذلك، فإن بانون ليس الشخص الذي يستسلم بسهولة، ولا يزال الصحفيون يطاردونه على جانبي المحيط الأطلسي. ومؤخراً استضافه «أندرسون كوبر» من شبكة «سي إن إن» في برنامجه. وفي روما اعترف بانون خلال إحدى المناسبات بأن القوميين في أوروبا «لا يحتاجونني»، لكنه مع ذلك تنبأ بفوزهم وأكد على التزامه بنضالهم.
وفي أحد المشاهد المحورية في فيلم «الحافة»، يقول بانون للمخرجة إن إصرار الديمقراطيين على «سياسة الهوية» سيحقق للجمهوريين النصر، لكن عندما واجهته كلايمان، التي تجادل بأن رسالته تركز بالكامل على سياسة «الهوية» والغضب القبْلي، فإنه يبتسم ابتسامة ماكرة ويشير ساخراً إلى أن سوء النية هذا سيجعل عملها فيلماً مؤيداً لترامب يستعرضه للصحفيين!

*كاتب أميركي متخصص في الشؤون السياسية

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»