برهنت الأحداث العالمية وبما لا يدع مجالاً للشك، على بروز إشكالية قصور الأداء الحقيقي، في إقامة الدور المنوط بالعلماء والأكاديميين والمؤسسات والقيادات الدينية، وبخاصة في سياق مواجهة خطاب العنف باسم الدين، مما أفضى للتناحر وإزهاق الأرواح، واستباحة حرمة «الإنسانية» باسم المقدس، الذي بني بالأساس على تفضيل وإكرام بني البشر.
وفي السياق ذاته، يتحتم علينا احترام حرمة الأرواح التي وُئدت ظلماً، وصون الأنفس التواقة للسلام والتراحم إضافةً لضرورة الاتفاق على سن مقاربة مرتكزة على حقوق الإنسان، متبنية لليقظة والمرونة في الوقت ذاته، للوقاية ومناهضة التحريض على الكراهية، المنتج للتطرف العنيف المؤدي إلى الإرهاب، ونشر قيم الاعتدال الديني ونبذ العنف. وهذا كله يعني البدء بمواجهة «التطرف الفكري»، إذ يعتبر أولى الوسائل الناجعة للقضاء على وباء التطرف واجتثاث فروع انتشاره، لإن معالجة التطرف تتخذ من المعالجة الفكرية عماداً لها، فمحاربة الفكر لا تكون إلا بالفكر. وحين نتكلم عن المنظومة الفكرية، فإننا وبلا شك نتجه للعلماء، إذ أن صمام الأمان ضد التطرف هو العلم. ولذا كان العلماء في مجتمعاتهم يتربعون بمكانة النبي كما قال الشاطبي، فهم مبينون لكلام الله وموضحون لفحواه، ولا يتحدثون عن ذواتهم أو من منطلقاتهم. وإنما عما فهموه من النص الشرعي، مع مراعاة خصوصيته، بمضامينها المستحدثة، بعيداً عن لي أعناق النصوص وتحويرها.
وتستحضر ذاكرتي في هذا السياق «عبقري القانون الدستوري المصري»، المرحوم الدكتور كمال أبو المجد -والذي فارقنا منذ أيام- الذي قد أشار في مقدمة كتابه «مدخل إلى إصلاح الخطاب الديني المعاصر» لما أسماه بـ«مظاهر الانحراف السبعة»، ممثلةً بوصلة انحراف الخطاب الديني، عن الإطار المرجعي الثابت للدين الإسلامي.
إذ يعتبر «الترهيب والتخويف» أولها باعتباره أول عناصر الخطاب الديني المعاصر، وأكثرها انتشاراً، وأشدها حاجة للمراجعة، وثانيها «الميل إلى التشديد على الناس» رغم وضوح النص الإلهي في سورة البقرة: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، وثالثها «الغفلة عن مقاصد الشريعة والوقوف عند ظاهر النصوص وحروفها»، أما رابعها فهو «الغفلة عن ترتيب الأولويات ومراتب الواجبات الدينية»، باعتبارها أعقد المشاكل التي تواجه حركات التغيير الفكري والاجتماعي، وخامسها «الغفلة عن دور العقل وأهمية العلم في بناء التصور الإسلامي» والذي جعله «أبو المجد» يقع في ميدانين وهما الميدان العام الذي يجعل للعقل الإنساني دوراً أساسياً إلى جانب دور النقل، أي النصوص القرآنية والنبوية، وميدان الفقه ومعرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال الناس، أفراداً وجماعات. أما المظهر السادس من مظاهر انحراف الخطاب الديني فهو «مداومة الحديث عن الماضي، والذهول عن الحاضر، والخوف من المستقبل»، وآخرها «علاقة المسلمين بالغير»، مشيراً -رحمه الله – إلى علاقة المسلمين بعضهم ببعض، وعلاقتهم مع غيرهم ممن لا يدينون بالإسلام.
والمتمعن في تلك المظاهر، تُفصح له عن عمق وتفرد بصيرة أبو المجد، ونضوجه الفكري مشكلاً مرآة حقيقية للواقع، من خلال الإشارة للتشدد المبني على التصور الخاطئ، الذي ينشأ من حالة القلق المستمر من أن يؤدى التيسر بالناس للخروج عن تكاليف الشريعة، إضافة لماهية فهم «الوصاية» من قبل الدعاة، إذ ينطلق الأغلبية على أنهم أوصياء. وله في التشديد رأي راجح إذ قال: «التشديد في حقيقته هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل»، حاثاً همم الدعاة للسعي لمعرفة لا شك فيها ولا مكابرة ولا جدال معها، منطلقاً من مرتكز القواعد المقاصدية لشريعة الإسلام، المتمثلة بالتيسير ورفع المشقة والحرج.
وفي سياق الحديث عن الشباب أو «صمام الأمان المجتمعي»، فإن بداية انحرافهم تبدأ بغرز سموم مبدأ السمع والطاعة في المنشط والمكره داخل الحركات الإسلامية، رغم أن المسلم لا يحتاج إلى وساطة أحد حتى يكون مسلماً، إضافة لترك هذه الشريحة الحساسة لوباء العزلة الشعورية، والقناعة برفض تجارب الآخر الدافع لكراهة الحياة والناس، مما يولد لديهم حرباً نفسية باردة وصراعاً مندفعاً لإشباعه. كما يقع الشباب حالهم حال البقية من طبقات المجتمع، في إشكالية عدم التمييز بين الشريعة والفقه، وما يصاحب ذلك من الظن المزعوم بوحدة الحقيقة أو احتكارها، مما يعاظم مغبة المشكلة، والمرتكزة كما ذكرت آنفاً على «الفكر»، ويعمق تقديرنا وإجلالنا ورغبتنا في تصدير أفكار علمائنا الأجلاء بحق لأولى الرتب وبداية العمل، والنهوض بمن ما يزالوا على العتبات، ويجعلنا قانعين ومتفقين على أنه لا أمل في صحوة، ولا رجاء في بعث، ولا جدوى من حديث عن تقدم أو تنمية إلا إذا تحركت العقول في الرؤوس!