يبقى التعاون التنموي والاقتصادي المدخل الأسلم في العلاقات بين الدول، ويمكن أن تُدار إشكالاته وتقلّباته وفقاً لما هو متّبع في احترام المصالح المتبادلة. وها هو يبرهن الآن، في ضوء تطوّر العلاقة السعودية العراقية، أنه الأجدى والأفضل، إذ يخاطب حاجات تنموية ملحّة وعاجلة في العراق ويلبي لدى السعودية رغبة عمرها ستة عشر عاماً في مساعدة الجار العربي ودعمه من جهة، وفي استعادة التواصل بين الشعبَين والمجتمعَين من جهة أخرى. ولا شك في أن هذا المدخل مؤهّل لاختراق صعوبات سياسية وأمنية لطالما اعتبرت مستعصية أو ميؤوساً منها. ذالك أن أي محاولات من أطراف ثالثة للإساءة إلى العلاقة أو لإفسادها ستصطدم عندئذ بحرص الطرفين المعنيين على مصالحهما الحيوية. فهذه هي الدينامية التي تعزّز الجوار الحسن والانتماء العروبي والتقارب السياسي.
إذا كان الإنصاف يقتضي التذكير بأن رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي شقّ الطريق عام 2017 عندما أثمرت زيارته الرياض اتفاقاً على إنشاء المجلس التنسيقي بين الحكومتين، فإن هذه الخطوة التي أخّرتها الظروف المعروفة لم تكن تأسيسية وحسب، بل شكّلت المؤشّر الأول على أن شيئاً ما في العمق بدأ يتغيّر في بغداد. حصل بعد ذلك، قبيل الانتخابات العراقية في مايو 2018 وبعدها، ما أكّد هذا المؤشّر أحياناً وما عاكسه أحياناً أخرى، وتبيّن أن الجانب الإيراني كان متوجّساً من التوجّه المتصاعد ليس ضدّه بالضرورة وإنما مع المصلحة العراقية بالضرورة، ولذا راح قاسم سليماني يلعب ما تيسر له من أوراق لإيقاف هذا التغيير الذي ربما لم يكن واضحاً لدى أقطاب الحكم والأحزاب الساعين إلى مناصب ومكاسب، لكن التظاهرات الشعبية، لاسيما في البصرة، أوصلت إليه رسالة احتجاج ونقمة على إيران لم يخطر على باله أنه سيسمعها يوماً، وقد ذكّره بعض شعاراتها بالاحتجاجات التي عمّت مدن إيران ومحافظاتها ولم تخمد نارها بعد.
لم تخطط بغداد للتمرّد على الجار الحليف، لكن الواقع هو الواقع، إذ لم تعد طبيعة العلاقة التي فرضتها إيران لتناسب العراق بعد انتهائه من سلسلة صراعات داخلية كان آخرها حرباً على تنظيم «داعش» الأكثر ضراوةً وتدميراً. ربما كان تصدير الثورة والعقيدة والسلاح ملبياً لطموحات الفئات التي أسست ميليشيات خارجة على القانون، لكنها لم تكن يوماً لمصلحة الدولة ومؤسساتها، وحينما مسّت الحاجة إلى الدولة اتضح أن الميليشيات مؤهّلة فقط لابتلاع ثروات البلد من أجل بقائها وغير مؤهّلة بل عاجزة كلياً عن المساهمة في التنمية ناهيك عن إدارتها. ولعل التطوّر الذي فرمل الجموح الإيراني ورسم فاصلاً بين مرحلتين في العراق هو فرض العقوبات الأميركية على إيران والعديد من ميليشياتها في العراق ولبنان، فضلاً عن تشديد العقوبات ضد النظام السوري وكذلك وضع حكومتي بغداد وبيروت أمام واقع دولي لم يعد مؤاتياً لمواصلة إيران مغامراتها الإقليمية.
وفي هذا الظرف تسلّم عادل عبد المهدي رئاسة الوزراء مسارعاً إلى تأكيد وسطيته وواقعيّته، وثمة تشابهات كثيرة بين مصطلحاته وتلك التي اعتمدها سلفه العبادي، تحديداً في رفض زجّ العراق في محاور دولية أو إقليمية وفي تطلّعه لعلاقات طيبة مع جميع جيرانه وفي تركيزه على معالجة مشاكله الداخلية. ويبدو الرئيس برهم صالح مواكباً إيجابياً لهذا التوجه، متجاوزاً الخلاف الكردي مع بغداد، أما رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي فيحاول التكيّف، وقد دعا إلى مؤتمر لرؤساء برلمانات دول الجوار الست، ما يتماشى مع سياق استعادة العراق دوره ومكانته في المنطقة. هذا الدور وتلك المكانة أشار إليهما ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال اجتماع وفدي البلدين في الرياض. واتضح في ذلك اللقاء أن المجلس التنسيقي بين البلدين أنجز الكثير في أقل من عامين لتصبح الاتفاقات جاهزة للتنفيذ، خصوصاً في مجالي الكهرباء والطاقة وتحلية المياه، بالإضافة إلى مدينة رياضية كهدية سعودية. مصادر إيران تقول إنها متخوّفة من تحوّل المصالح الاقتصادية إلى أداة استقطاب للعراق، لذا فإن بعض أتباعها باشروا إطلاق إنذارات بأنهم قادرون على إسقاط حكومة عبد المهدي. لكن بإمكان أي مصادر أخرى أن تردّ بأن أحداً لم يمنع إيران من أن تكون حريصة على دعم الدولة في العراق وعلى تمكينها من تلبية حاجات شعبها.
ثمة بعد مستقبلي لمسار تطوير العلاقات السعودية العراقية، مقابل بعد تخريبي لربط العراق بإيران اعتماداً على الميليشيات.