العقوبات الأميركية جعلت النظام الإيراني يختنق بكل ما للكلمة من معنى، فليس سهلاً على نظامٍ أفقر شعبه لعقود أربعة أن يجد نفسه مجبراً على أن يقلل مصاريفه وإنفاقه على أحلام التوسع وبسط النفوذ، وأن يعيدها إلى الحد الأدنى ويعود ليهتم بشعبه.
لم يمرّ النظام الإيراني بمرحلةٍ من الضائقة المالية والسياسية مثل هذه المرحلة، والفضل يعود إلى الدول العربية القائدة والرائدة وتحديداً السعودية والإمارات اللتين استطاعتا تجاوز أزمة إدارة أوباما وتنازلاتها غير المحسوبة لنظام الملالي وقادت توجهاً دولياً يفضح تجاوزات هذا النظام ودعمه للإرهاب وخرقه للاتفاقات الدولية وتدخلاته في الشؤون الداخلية لعدد من الدول العربية.
كان انضمام إدارة الرئيس ترامب لهذا التوجه فاعلاً وقوياً، وهو الذي أدى إلى «تصفير» صادرات إيران النفطية، وهو يسعى ضمن استراتيجية معلنةٍ إلى ملاحقة «حزب الله» الإرهابي، والتضييق عليه، ما أدى إلى خروج زعيمه الخطيب متوسلاً وشحاذاً على القنوات الفضائية، يسأل مناصري «المقاومة» و«الممانعة» لإغاثته وإغاثة حزبه من المستقبل المظلم، الذي لا يجدون عنه مناصاً.
«إنه الاقتصاد يا غبي»، كان هذا شعاراً رناناً منتصف التسعينيات تبنته حملة بيل كلينتون في مواجهة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب الذي خرج منتصراً من حرب الخليج الثانية وسقط في عهده الاتحاد السوفييتي، الذي كان أحد قطبي الحرب الباردة لعقودٍ، وها هو النظام الإيراني يكتشف بقسوةٍ هذه المرة أن اقتصاده يمكن أن ينهار، وأن قدرته على دعم خلاياه وأذرعه وميليشياته تضعف، وأن غوثاً حقيقياً لن يأتيه من حلفائه الأقربين الذين يعانون بدورهم مثله أو أكثر منه.
من المهم في هذا السياق تأكيد الاختلاف الكبير ومنذ سنواتٍ بين روسيا والنظام الإيراني من حيث الأهداف والاستراتيجيات، وهو ما لم يكن محل انتباه من كثير من المراقبين، فروسيا أرادت نفوذاً دولياً في منطقة الشرق الأوسط وحصلت عليه، بينما إيران أرادت أن تجعل سوريا إحدى الدول التابعة لها، أو «العواصم» العربية الخاضعة لتاج الملالي الفارسي الإمبراطوري التوسعي، وهو موقف تجب المراهنة عليه وإبرازه وتعميقه. إن ضعفَ النظام الإيراني اقتصادياً يخرجه من معادلات سياسية كثيرة في المنطقة والعالم، وهي لحظة تاريخية يمكن أن ينجو العالم فيها من تبعات انتشار الطائفية والأصولية والإرهاب إن أحسن استغلالها وابتعد عن التلاعب بها.
إيران ليست كوريا الشمالية يا سادة، وهي لم تكن كذلك أبداً، وأوضح الأدلة على هذا اليوم هو سعي كوريا الشمالية للتفاوض الجاد مع أميركا وإن اتجهت للعبٍ سياسيٍ لتحسين شروط التفاوض في زيارة زعيمها لروسيا ولقاء الرئيس بوتين، ومع الصين كذلك، ولكن النظام الإيراني الطائفي الإرهابي، وإن أبدى في بعض الفترات ارتخاء بسبب الضغوط، فإن أهدافه الاستراتيجية أهدافٌ أيديولوجية منغلقة وغاياته غيبية انتظارية لا علاقة لها بالواقع.
مقارنة سريعة بين تعامل الإدارتين الأميركيتين السابقة والحالية، أوباما وترامب، توضح بجلاء أن النظام الإيراني لا يفهم إلا لغة القوة وأذرعه الخارجية مثله، القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأنه يخضع للقوة ولا يخضع للتساهل. القوة تجعله يفهم القوانين الدولية وأسسها ومبادئها، بينما لغة التسامح تجعله يسدر في غيّه ومؤامراته ومشاريعه التوسعية.
ثمة تناقضات مهمة في التعامل مع ملف النظام الإيراني على المستوى الدولي، في التعامل الأميركي من جهة وفي التعامل الأوروبي من جهة أخرى، وعلى النقيض في التعامل الروسي والصيني من جانب مختلفٍ تماماً، والنظام الإيراني يفتش دائماً عن مثل هذه التناقضات ليعمل في ما بينها وينشط في إيجاد المخارج.
أخيراً، كل المؤشرات تؤكد اختناق النظام الإيراني، وبالإمكان دعمها وتعزيزها والدفع باتجاهها، وبالذات في هذه المرحلة التاريخية استعداداً لأي تغيرات مستقبلية.