بدموع مؤثرة، قالت تيريزا ماي في خطاب متلفز إنها ستستقيل في السابع من يونيو المقبل من داونينغ ستريت (مقر رئاسة الحكومة) وإنها أبلغت الملكة إليزابيث بقرارها. وستواصل مهامها كرئيسة للوزراء إلى حين اختيار زعامة جديدة. كما أعلنت استقالتها من رئاسة «حزب المحافظين»، داعيةً أعضاءه لاختيار رئيس جديد يقوده في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد. وعللت ماي استقالتها بالفشل في تحقيق آمال وتطلعات الشعب البريطاني في إنجاح البريكست. ونتذكر أن ماي تولت رئاسة الحكومة في 2016 بعيد تصويت البريطانيين بنسبة 52% لصالح بريكست في استفتاء جرى في 23 يونيو من ذلك العام، وعلى عكس مارغريت تاتشر، فإن ماي وصلت عبر منافسة على القيادة، وليس الفوز بانتخابات.
كان قرار البريكست قد تم قبل ثلاث سنوات وكانت «UK LAVES EU» الجملة الصاعقة التي نزلت شؤماً على كل رعاة وبناة الاتحاد الأوروبي وعلى كل المؤمنين بالوحدة الأوروبية والتعاون المشترك.. بريطانيا دولة عظمى منذ قرون، عرفت الديمقراطية في شرايينها قبل أن تعرفها دول عريقة كفرنسا والولايات المتحدة، كانت دائماً نموذجاً للانفتاح السياسي، وقد مأسست لدور البرلمان والمعارضة في سن القوانين وحكم الشعب وبنت اقتصاداً قوياً وأنشأت قوة عسكرية متمكنة.
عندما همّ البريطانيون بالخروج، فهم استراتيجيو الاتحاد الأوروبي أن البعد الوطني السيادي الأحادي قبر البعد الوحدوي الاتحادي التشاركي، وأن الذي قام بهذا التوجه ليست دول كالبرتغال أو كهنغاريا وإنما أقوى دولة أوروبية وإحدى أقوى دول العالم، فلم تفلح دعوات الرئيس الأميركي آنذاك أوباما الذي طالب البريطانيين من قلب العاصمة لندن بالتزام الحكمة، ولا دعوات الشركات العابرة للقارات في إبقاء البلد حفظاً لمصالحه، ولا وصول عمدة مسلم إلى بلدية لندن أقوى العواصم في العالم.. لم يفلح كل هذا في إقناع متكلمي لغة شكسبير بتفضيل البعد الاتحادي على البعد الوطني. البريطانيون رجال متعلمون، يلج أبناؤهم أعرق الجامعات، وقد أصبحت بلادهم عاصمة للبحث العلمي والاقتصاد وعالم المال في العالم، ولكن لهم شعور بأنه لا يحق للمنظومة الأوروبية إملاء القوانين أو الدروس على مسيرة البلد السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي رسمتها منذ قرون. كما مل البريطانيون الدفع للآلاف من المهاجرين من صناديق الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية، واقتنع سكانها أن العالم يتقلب، وأن مستقبل دولة ذات اقتصاد قوي في عالم متقلب وهجرة مثيرة بسبب الأزمات والحروب يكمن في غلق الحدود وليس في فتحها، وهنا المصيبة.
ورغم شجاعة رئيسة الوزراء البريطاني وعملها الدؤوب وشهرتها على أنها تستطيع الصمود وسط ظروف شبه مستحيلة، فإن ذلك لم يسعفها في امتصاص غضب البريطانيين بل وحتى أعضاء حزبها، كما أن قرارها بإجراء انتخابات في 2017 خلّف وضعاً صعباً جداً، إذ خرج منها حزب المحافظين بعدد مقاعد في البرلمان أقل مما كان عليه قبل الانتخابات. ناهيك عن أن مسلسل البريكست أفقد ماي الكثير من أعضاء الحكومة في فترة زمنية قصيرة. حتى أن عدد استقالات الوزراء في حكومتها فاق ما فقدته حكومتا توني بلير ومارغريت تاتشر في عشر سنوات. كما أن الحديث عن البريكست استحوذ على رئاستها للحكومة، وهنا تراجعت شعبيتها كاملة. لقد أضحت الانقسامات سمة أساسية في فترة حكمها. واليوم، بعد إعلانها الاستقالة، يُتوقع أن نشهد منافسة على القيادة، إذ يمكن لأي نائب من المحافظين أن يترشح للقيادة، وسيصبح الفائز قائداً للحزب ورئيساً للوزراء دون خوض انتخابات عامة. ومن المرشحين الأوفر حظاً لخلافتها وزير الخارجية السابق بوريس جونسون زعيم الداعين إلى مغادرة الاتحاد الأوروبي.
يقيني أن بريطانيا ستشهد مرحلة انتقالية صعبة، وستعرف بلبلة في الأسواق وفي حي المال والأعمال، وهبوط سعر الجنيه الإسترليني، وتضخماً يتجاوز خمسة في المائة، وزيادة في كلفة العمل، فيما سيتراجع النمو كثيراً، وستزيد هاته الأجواء من نقل آلاف الوظائف من حي المال والأعمال إلى مركزي فرانكفورت وباريس الماليين، لكن نظراً لإمكانياتها البشرية والصناعية والمالية ستتعافى بعد مدة طويلة، ولكن بعد أن تترك صواعق في مؤسساتها وفي أوروبا على السواء.
*أكاديمي مغربي