اكتسبت انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت مؤخراً أهمية خاصة بالنظر إلى أنها جرت للمرة الأولى في ظل مناخ تجسد فيه بعض التيارات المعادية للاتحاد الأوروبي وسياساته إن لم يكن لفكرة التكامل الأوروبي ذاته، ففي 2016 وقع أول حدث من نوعه في تاريخ الاتحاد الأوروبي، وهو موافقة الأغلبية الشعبية في بريطانيا على الخروج من الاتحاد، وعلى الرغم من تعثر عملية الخروج حتى الآن فإنه يمكن القول بأن هذه الانتخابات كانت اختباراً لمدى قوة اتجاه التمرد على الاتحاد الأوروبي الذي بدأته بريطانيا وعززه صعود أحزاب اليمين القومية المتشددة، وكانت الملاحظة الأولى هي زيادة ملحوظة لنسبة المشاركة في الانتخابات والتي فاقت الـ50?‏ مقابل أقل من 43?‏ في انتخابات2014، وعلى الرغم من بعض الأسباب التي سيقت لتفسير هذه الزيادة فإنها لا يمكن أن تُعزَل عن فكرة الرهانات الكبرى على مستقبل الاتحاد بمعنى هل تستمر مسيرته رغم العقبات أم أن «بريكست» سوف يكون هو حجر الدومينو الأول الذي يتوالى بعده سقوط بقية الأحجار؟
ويمكن القول على ضوء نتائج الانتخابات أنها قدمت إجابات غير حاسمة في اللحظة الراهنة وإن كان من الضروري النظر إلى هذه النتائج بمنظور حركي، أي كشريط مُصَور متحرك وليس لقطة لصورة ساكنة، ذلك أن النتائج قد أشارت إلى تراجع القوى الرئيسة التي تمثل محرك الاتحاد وقوته الدافعة فللمرة الأولى منذ بدأت انتخابات البرلمان الأوروبي في1979 يفقد المحافظون من أحزاب يمين الوسط، وكذلك الاشتراكيون الديموقراطيون الأغلبية المطلقة في البرلمان، فقد حصل حزب الشعب الأوروبي على182 مقعداً مقابل 216 فاز بها في انتخابات2014 وحصل «الاشتراكيون الديمقراطيون» على152 مقعداً مقابل191 بما مجموعه 334 مقعداً، فيما الأغلبية المطلقة تتطلب376 وعلى الرغم من صعود أحزاب اليمين القومية المتطرفة لدرجة أن حزب التجمع الوطني بقيادة مارى لوبان تفوق على حزب الرئيس الفرنسي ماكرون، بحصول الأول على24?‏ من الأصوات مقابل 22.5?‏ للثاني فإن إجمالي ما حصلت عليه هذه الأحزاب على صعيد البرلمان الأوروبي مازال بعيداً عن الأغلبية المطلقة (172مقعداً من751)، بالإضافة إلى أنه من السهل نسبياً للقوتين المدافعتين عن الاتحاد الأوروبي التحالف مع الخضر والليبراليين الذين صعد نجمهم بدوره لتأمين الأغلبية المطلقة على حساب أحزاب اليمين القومية المتشددة، أي أنه يمكن تلخيص الموقف بالنسبة لهذه الأحزاب بأنه «صعود دون تمكين».
ويمثل ما سبق تحليل «الصورة الثابتة» الذي لا يأخذ في حسبانه اعتبارات «الحركة»، أما إذا استُخدم أسلوب «الشريط المتحرك» فإننا لن نستطيع تجاهل أن تيار اليمين القومي المتشدد في صعود عبر الزمن خاصة أن المشكلات القادمة من خارج أوروبا كمشكلات اللاجئين والهجرة غير الشرعية قد غذته، بالإضافة إلى المشكلات الداخلية التي يعانيها الاتحاد، وبعبارة أخرى، فإننا نفترض أن سيناريو انتخابات2024 قد يكون مختلفاً إذا استمرت العوامل التي أدت إلى نشوء الأحزاب اليمينية وصعودها، ومن اللافت مثلاً النتيجة التي حققها «حزب بريكست» حديث النشأة في بريطانيا، فقد استحوذ وحده على32?‏ من الأصوات في مقابل خسائر كبيرة لحزبي «المحافظين» و«العمال»، ولهذا دلالته بطبيعة الحال بالنسبة لمعضلة «بريكست» في بريطانيا، كما سبقت الإشارة لإنجاز مارى لوبان في فرنسا على حساب حزب الرئيس نفسه، وتبدو الصورة أوضح بكثير في بعض بلدان أوروبا الشرقية، كالمجر التي حصل فيها حزب فيكتور أوربان الحاكم على52?‏ من الأصوات و13 من21 مقعداً، وبولندا التي حقق حزب القانون والعدالة اليميني نجاحاً بـ45?‏ من الأصوات و27 من 51 مقعداً، وسوف يتضمن السيناريو المبنى على افتراض استمرار العوامل التي أفضت إلى صعود اليمين القومى المتشدد نتائج مزعجة بالنسبة لأوروبا وللنظام العالمي، فهذا اليمين كاره لفكرة التكامل الأوروبي أصلاً، ولو تمكن من الأمر في مؤسسات الاتحاد فإنه سيعمل على استرداد أقصى ما يمكن من السلطات الاتحادية وإعادتها إلى السيادة الوطنية للدول الأعضاء، ناهيك بالعمل على تعويق أي خطوة تكاملية جديدة هذا إذا لم يتكرر سيناريو بريكست أصلاً، ومع ذلك فإن استمرار صعود اليمين القومي المتطرف قد لا يفضي بالضرورة إلى انهيار الاتحاد الأوروبي، وإنما إلى أوروبا جديدة يُعاد تشكيلها وفق توجهاته، أما التأثير على النظام العالمي فقصة أخرى.