يسير العالم بسرعة نحو استخدام المزيد من العملات الرقمية، والتي ستغير بصورة جذرية من طبيعة التعاملات النقدية والمالية في العالم مع ما تحمله هذه التغيرات من جوانب إيجابية وسلبية على حد سواء، فهناك سهولة وسرعة في التداول، بغض النظر عن مكان التواجد أو مكان الإقامة، وهناك أيضاً إمكانيات القرصنة وفقدان الأموال، خصوصاً أن البنية التشريعية والقانونية للتعامل بالعملات الرقمية تشوبها الكثير من النواقص والثغرات، وهي بحاجة لسنوات طويلة لاستكمالها، وبالتالي حفظ حقوق المتعاملين.
مؤخراً أطلق مؤسس «فيسبوك» مارك زوكريبرج عملة رقمية جديدة تحت اسم «ليبرا» صاحبها الإعلان عن منظمة غير ربحية تحمل نفس الاسم بمشاركة 27 مؤسسة، إضافة إلى شركة تابعة باسم «كليبرا» ستقوم بالتأسيس لخدمات تتيح للمستخدمين التعامل بـ«ليبرا» من خلال محفظة إلكترونية متاحة بـ«الواتس أب» و«ماسنجر» مع إمكانية استخدام الهواتف الذكية في تعاملات «ليبرا».
الغريب أن الإعلان عن هذه العملة الجديدة، والمتوقع تطبيق استخداماتها في العام القادم 2020، تزامن مع ارتفاع كبير في عملة «البتكوين» المثيرة للجدل، والتي نطلق عليها اسم «العملة الشبح» بسبب غموضها وعدم معرفة من يقف وراءها، إذ سرعان ما تراجعت قيمتها نتيجة للمضاربات، مما أدى إلى خسائر جسيمة للمتعاملين.
وهنا لا بد من ضرورة التفريق بين العملات الإلكترونية التي سنرى إطلاق المزيد منها في السنوات القادمة، حيث ستتداخل الأمور وتتعقد بين العملات الرقمية التابعة لمؤسسات عالمية مرموقة، وتلك الغامضة التي يمكن أن تعرض المتعاملين للخسائر وضياع الثروات، خصوصاً أنها أضحت مجالاً التعامل المفضل لغسيل الأموال وتجار المخدرات والدول الداعمة للإرهاب.
وإذا عقدنا مقارنة سريعة بين «بيتكوين» و«ليبرا» على سبيل المثال، فإننا سنجد أن الفارق شاسع بينهما، فالأولى عبارة عن شبح يتجول بحرية في شبكة الإنترنت دون أن يراه أحد، إذ لا يمكنك الرجوع إلى أي جهة في حالة القرصنة وسرقة عملات «البتكوين»، وهو ما حدث كثيراً لأشخاص ومؤسسات حول العالم.
أما «ليبرا»، فقد أطلقتها جهة معروفة، وهي تنسق مع البنوك المركزية في العديد من الدول ومع مؤسسات مالية وأكاديمية، بما فيها ماستركارد وفيزا وفودافون وأوبر وبوكينك، حيث يتوقع انضمام المزيد من المؤسسات إلى نظام الدفع بهذه العملة إذا ما سارت الأمور بالطريق الصحيح - كما هو متوقع - إذ أن شركة «فيسبوك» تنوي إقامة بنية مالية تحتية متطورة للدفع بالعملة الرقمية الجديدة بتقنية «بلوك تشين».
الجانب الإيجابي الآخر والذي يميز «ليبرا» عن «البتكوين»، هو أن الشركة تنوي تشكيل قسم لإدارة المخاطر، والأهم من ذلك أن «فيسبوك» أعلنت عن استعدادها لتعويض أي شخص يتعرض للقرصنة ويفقد ما يملكه من عملات «ليبرا»، مما يعني أنه يوفر ضمانة لا تتوفر لدي أية عملة رقمية أخرى، علماً بأن هذا التعهد المبدئي بحاجة لأنظمة وتشريعات، إذ أن العديد من الخفايا تقبع في التفاصيل التي تكتبها البنوك بخط صغير للغاية ويحتاج معها المتعامل إلى ميكرسكوب لقراءتها.
حتى الآن، فإن هذه الأنظمة والتشريعات غير متوفرة، مما يعني ضرورة عدم الاستعجال في التعامل مع «ليبرا» لمجرد انطلاقها في 2020 فالتأني والحكمة مطلوبان، فبداية طرح أية سلعة، بما فيها العملات الرقمية سيصاحبها الكثير من الخلل والثغرات والمصاعب، وأيضاً المضاربات والتي لا يقوى عليها صغار المالكين أو المستثمرين، كما أن نظامها الإلكتروني سيعاني من قصور في بدايته وسيستغرق استكماله وسد ثغراته بعض الوقت، بناء على التجارب التي سيمر بها، إذ لا يمكن الاستهانة بذكاء وأساليب القراصنة الذين يملكون تجارب في فن القرصنة.
رغم كل هذه المحاذير، فإن «فيسبوك» وعملته «ليبرا» سيحدث نقلة نوعية في التعاملات النقدية والمالية في العالم، وسيفتح آفاقاً جديدة أكثر سهولة وسرعة وتكلفة في تداول ونقل الأموال وحركتها بين الأسواق الدولية، وهو تطور مثير ومتقدم ومنظم، وذلك على عكس ما سبقها من عملات رقمية تتداول على صورة أشباح.
*مستشار وخبير اقتصادي