هناك سؤال عادة ما يثار في الذهن ألا وهو: لماذا غاب «النقد» لفظاً ومفهوماً ووظيفة في الثقافة العربية؟ ولماذا لم يتطور النقد الأدبي إلى نقد ثقافي ونقد اجتماعي ونقد حضاري.. إلا نادراً عند بعض الأفراد على هامش الثقافة العربية مثل الجعد بن درهم، والحلاج، وابن الراوندي، وأبي حيان التوحيدي، وابن رشد.. من القدماء، وهشام شرابي وإدوارد سعيد.. من المحدثين؟
قد يرجع ذلك إلى الوظيفة التي مارسها العقل، وهي التبرير؛ تبرير الدين وتبرير السياسة. ويعني التبرير الإيمان ببعض العقائد مسبقاً ثم جعل وظيفة العقل إيجاد البراهين على صحتها. وهو تعريف الغزالي لعلم الكلام في «المنقذ من الضلال»، أي إثبات صحة العقائد الدينية بالبراهين والأدلة اليقينية. الإيمان أولا والعقل ثانياً، المعطيات أولا وفهما ثانياً. فالله موجود، والعالم مخلوق، والنفس خالدة تثاب وتعاقب طبقاً للأعمال، مما يقتضي البعث والنشور. وهو يحدد تصوراً ثقافيا للعالم لا يمكن الخروج عليه دون اتهام بالكفر والإلحاد والدهرية.
تم ذبح الجعد بن درهم بعد خطبة العيد بيد الخطيب، لأنه تجرأ وقال إن الإنسان صاحب أفعاله ومسؤول عنها. وكُفرت «الكرامية» لأن «ابن كرام» قال بتصور مغاير لله. وتم استبعاد النسق الاعتزالي كتصور للعالم يقوم على الأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والحسن والقبح العقليان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فجوهر التوحيد هو العدل، ويتمثل العدل في قدرة الإنسان على الفهم والاختيار، والاستحقاق طبقاً للأعمال، والخير والشر في ذاتهما وليس بقدرة أو إرادة خارجية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحديد العلاقات الرأسية في المجتمع. وساد التصور الأشعري الذي يقوم على نظرية الذات والأفعال والأسماء، كما عبّر عن ذلك الغزالي في آخر «الاقتصاد في الاعتقاد». التوحيد مطلق غير مشروط بالعدل، والنص هو الذي يحدد الخير والشر، وهو خاضع لتأويل البشر.. فأصبح التبرير الديني مقدمة للتبرير السياسي، وقبول معطيات الدين مثل قبول معطيات السياسة.
وقد حدث الشيء نفسه في علوم الحكمة، أي في الفلسفة، حيث استقر النسق الفلسفي على نفس النسق الكلامي، لكن بطريقة أكثر عقلانية وباعتماد أقل على النصوص. واشتدت ثنائية الخالق والمخلوق حدة. وأصبحت ثنائية متعارضة لا يمكن التقريب بين طرفيها. صفات الخالق غير صفات المخلوق؛ وما أُعطي للخالق يسلب من المخلوق، وما يوصف به المخلوق لا يوصف به الخالق. القول بقدم العالم إنكار لهذه الثنائية، وإنكار علم الله بالجزيئات إنكارٌ للعلم الإلهي بكل شيء، كليات وجزئيات، في حين أنه في المنطق العلم بالكليات يغني عن العلم بالجزئيات، والمقدمات الكبرى تتضمن المقدمات الصغرى. وإنكار حشر الأجساد والاكتفاء بخلود النفس، خروج على الإيمان. كما أن تحويل عقائد الإيمان إلى تصورات عقلية أكثر قبولا هو خروج على الدين وسبب للاتهام بالكفر. وهي التصورات الثلاثة التي كفّر فيها الغزالي الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، والتي استمرت بعده بالرغم من محاولة ابن رشد الدفاع عنها وعن احتمالها في كتابه «تهافت التهافت». واستقرت المدينة الفاضلة على المدينة الهرمية برأسها الأعلى، ثم تتدرج الطبقات من الأعلى كمالا إلى الأقل كمالا حتى نصل إلى العمال والفلاحين والصيادين. فمن يعملون بأيديهم أقل كمالا من الذين يعملون بعقولهم. وما بين الأعلى والأدنى هناك الوزراء والقواد أي رجال الحكم. واستمر هذا التصور إلى الآن في السلطة والثروة. والمعرفة تأتي لـ«الرئيس» من الاتصال بالعقل الفعال وفيضه عليه. وهي معرفة أعلى من المعرفة الحسية والعقلية التي لدى باقي الطبقات.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة