اقتصر دور العقل في علم أصول الفقه على استنباط الفروع من الأصول في القياس الشرعي. وهو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة. فكل واقعة جديدة لها أصل قديم. وكل واقع متغير له أصل ثابت في النص. في حين أن النص يتوقف على فهمه واختياره. كما أن الواقع، أي «عموم البلوى» أو «المصالح العامة»، يدركه كل الناس. وهمشت الاستدلالات الحرة، مثل «المصالح المرسلة» و«الاستحسان» و«الاستصحاب» و«الاستصلاح». وهو ما يؤيده النص أيضاً «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن». والمصادر الأربعة للشرع تبدأ بالنص؛ الكتاب والسنة. وتنتهي بالواقع، الإجماع والقياس. فالأولوية للنص على الواقع. والنص متشابه، والواقع مرئي. النص سلطة، والواقع تحرر من السلطة. النص ثبات، والواقع حركة. وبالرغم من أن اللغة بها حقيقة ومجاز، ظاهر ومؤول، محكم ومتشابه، مجمل ومبين، مطلق ومقيد إلا أن العلاقة بين الطرفين مثل علاقة الثابت بالمتحرك، القاعدة بالاستثناء، الأصل بالفرع.
ولم يعتمد  أهل التصوف على العقل لصالح مصدر آخر للمعرفة هو الذوق أو الإلهام أو الكشف، وهو نور يقذفه الله تعالى في القلب، وشرطه التوجه إلى الله، وسلوك الطريق، والصعود في المقامات والأحوال. إنها المعرفة الإشراقية، والتي تأتي أولا ثم يبحث عن البراهين على صدقها كما هو الحال في علم الكلام. وقد وضح ذلك في «حكمة الإشراق» عند السهروردي. واتحدت نظرية الفيض أو الصدور عند الفلاسفة مع الكشف والنور الرباني عند الصوفية في المعرفة أو الفلسفة الإشراقية. وبدل أن تأتي المعرفة عن طريق الرواية أفقياً من السابق إلى اللاحق، تأتي رأسيا من أعلى إلى أدنى. لكن كيف يتم النقد في عالم من المعجزات؟ وإذا كانت علوم الحكمة علوماً، نخبوية فقد تحول التصوف إلى ثقافة شعبية من خلال الطرق الصوفية.
والعلوم النقلية الخمسة التي لها أكبر الأثر على التعليم الديني المنتشر بوفرة لم تركز على العقل منذ البداية، فهي علوم تعتمد على النص.
وعلم الحديث تم استبعاد نقد المتن لصالح نقد السند، مع أن المتن في النهاية هو ما يتوافق مع القرآن ويقبله العقل وينسجم مع المصلحة. لكن ذكر الأسانيد أصبح دليلا على العلم، أي العلم المنقول الذي لا يخضع للنقد.
وأحياناً يتحول علم السيرة إلى مجموعة من المدائح تقال في المولد النبوي، لا نقد فيها للروايات.
وفي علوم التفسير تم تهميش العقل لحساب التفسير بالمنقول، واعتمد التفسير على أقوال السابقين ومنقولات المفسرين دون تحكيم للعقل أو المصلحة ودون التعبير عن روح العصر.
وفي علوم الفقه يتم التركيز على تقليد المذاهب الأربعة التي لا خروج عليها. وأصبح السباق بين هذه المذاهب واضحاً بين الفرق الكلامية، دون أن يحاول أحد باسم العصر إعادة النظر في أحكام الغنائم والسبايا والرق.. وهي الموضوعات التي انقضت بانقضاء زمانها. وربما كذلك أيضاً في بعض أحكام الجلد والرجم، وبعض أحكام المرأة التي أصبحت -في رأي البعض- متعارضة مع حقوق الإنسان.
وباختصار فإن النقد ضد التقليد، وهو تعبير عن الحديث في مواجهة القديم.

أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة