منذ بداية شهر أغسطس الجاري، نظمت العديد من المنظمات الدولية والجهات والمؤسسات الخيرية العاملة في مجال الصحة العامة، أنشطةً وفعاليات متنوعة، إحياءً للأسبوع العالمي للرضاعة الطبيعية (World Breastfeeding Week)، والذي يستمر حتى نهاية الأسبوع الأول من هذا الشهر.
وكعادة تلك المنظمات والمؤسسات، تم اختيار شعار «تمكين الأبوين لإتاحة الرضاعة الطبيعية» كشعار لفعاليات هذا العام، بهدف حث الحكومات، والقطاع الخاص، وباقي جهات العمل والتوظيف، على تبني سياسات تدعم وتسهل إتاحة الرضاعة الطبيعية. إن مثل هذه السياسات، كمنح الأبوين إجازة مدفوعة الأجر بعد الولادة، لا تمكن الأبوين فقط من توفير الرضاعة الطبيعية لوليدهما الجديد، بل تمنحهم أيضاً الفرصةَ لتعزيز وتدعيم الرابطة مع طفلهم في المراحل المبكرة من حياته، والتي تعتبر أهم المراحل لتحقيق هذا الهدف.
كما أن الدراسات والأبحاث الطبية، أثبتت بما لا يدع مجالا للشك، بأن التغذية المثالية التي تتوفر للطفل الرضيع من خلال الرضاعة الطبيعية، وبالترافق مع الحب والاهتمام والرعاية التي يتلقاها في سنوات عمره الأولى، يمكنها أن تترك أثراً إيجابياً على نمو مخه، وعلى قدراته العقلية والذهنية، وهو الأثر الذي سيظل يجني فوائده خلال باقي مراحل حياته.
وتحتل سياسات العمل الصديقة للرضاعة الطبيعية وللأطفال الرُّضَّع، أهمية خاصة في الحالات التي يعمل فيها كلا الوالدين، حيث تحتاج الأم لإجازة من العمل للتعافي من آثار الولادة، ولتتمكن من أداء أمومتها وتنظيم الرضاعة بشكل سليم. وتعتمد قدرة الأم على الاستمرار في الرضاعة بعد العودة للعمل، على تخصيص أوقاتٍ خلال اليوم لإرضاع طفلها، بالإضافة إلى تسهيلات خاصة لتجميع وتخزين حليب الثدي خلال ساعات العمل، وأماكن عامة تتمتع بالخصوصية والنظافة والأمن، تتمكن فيها من إرضاع طفلها خارج أوقات العمل. ويحتل منح الأب إجازة مدفوعة الأجر بعد الولادة، نفس القدر من الأهمية للإجازة التي تحصل عليها الأم، كونها تتيح له بناء وتعزيز الرابط النفسي مع وليده، كما أنها تشجع على تحقيق هدف المساواة بين الجنسين، من خلال مشاركة الأب خلال هذه الفترة في الأعمال المنزلية.
وتتكامل المطالبات والدعوات لتبني سياسات توظيف صديقة للأطفال الرُّضَّع، أو بالأحرى صديقة للأسرة برمتها، مع مبادرة المستشفيات الصديقة للأطفال الرُّضَّع، والتي كانت قد أطلقتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة في عام 1991، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، وبعد أقل من عام من الإعلان الدولي المشهور، المعروف بـ«إعلان الأبرياء» (Innocenti Declaration)، الهادف إلى حماية ودعم وتشجيع ثقافة الرضاعة الطبيعية.
ويمكن تعريف مبادرة المستشفيات الصديقة للأطفال الرُّضَّع على أنها منظومة من الجهود الرامية إلى رفع وتحسين مستوى الخدمات التي تقدم في عنابر الولادة بالمؤسسات الصحية، على نحو يُمكّن أمهات الأطفال حديثي الولادة من إرضاع أطفالهن رضاعة طبيعية، منذ الساعات الأولى بعد ولادتهم، مما يمنحهم أفضل تغذية صحية ممكنة خلال هذا الوقت الحرج من حياتهم. ومن بين الجوانب والمعايير المتعددة لهذه المبادرة، بل ربما كان من أهمها، سياسة الحد من استخدام حليب الأطفال الاصطناعي (علب مسحوق حليب الأطفال)، التي تقدمها الشركات بالمجان للمستشفيات، كأسلوب تسويقي تجاري، بهدف ربط المستهلك (الأم والطفل) بمنتج معين منذ الدقائق الأولى بعد الولادة. ولذا، وباستثناء الضرورة الطبية، يجب أن يعتمد غذاء الرضيع على حليب أمه فقط، وحتى في الحالات التي يوصى فيها باستخدام الحليب الاصطناعي، يجب أن يكون ذلك لدعم الرضاعة الطبيعية، التي يجب أن تظل هي الأسلوب الأساسي في تغذية الرضيع.
وتظهر هذه المبادرات وغيرها، تزايد الاهتمام الطبي والعالمي بالرضاعة الطبيعية، كونها من أفضل السبل وأكثرها فعالية في دعم صحة الأطفال الرضع، وفي خفض معدلات الوفيات بينهم. فعلى حسب الدراسات، إذا ما تم تعميم وتطبيق الرضاعة الطبيعية بشكل واسع، وإذا ما توفرت الرضاعة الطبيعية للجزء الأكبر من الأطفال الرضع، فسيؤدي ذلك إلى خفض عدد الوفيات بين أفراد هذه الطائفة العمرية بمقدار 820 ألف وفاة سنوياً. وينتج هذا الخفض في عدد الوفيات في معظمه، من حقيقة أن حليب الأم يعتبر الغذاء المثالي لحديثي الولادة وللأطفال الرضع. فعلاوة على كونه غذاءً آمناً، فإن حليب الأم يحتوي على أجسام مضادة يمكنها توفير الحماية للطفل الرضيع ضد بعض أمراض الطفولة، مثل أمراض الإسهال والالتهاب الرئوي، واللذين يعتبران السببين الرئيسيين خلف الجزء الأكبر من الوفيات بين الأطفال حول العالم. كما أن كون حليب الأم متوفراً دائماً، فهو يضمن إمكانية توفير غذاء مناسب وكافٍ للطفل الرضيع، وفي جميع الأوقات وعلى مدار الساعة.