يصعد اللوم السياسي غالباً من أسفل إلى أعلى، حيث توجه القاعدة الشعبية لوما، إلى قمة الهرم السياسي، لكن اللوم قد يتوجه أحياناً إلى ما لم يتم، سواء كان هذا الغائب أم الناقص أو الشارد بعيداً، هو البديل الذي يراه الناس لما هو سائد، أو كان هو ما لم يرد على بال المسؤولين، ولم يجل بخاطرهم يوماً ما.
هنا ينصب اللوم على تلك الفجوة القائمة بين ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن بالفعل، أو ما كان يتوقعه الجمهور من شخص أو حزب وقت توليه مقاليد الأمور، أو قبيل حدوث هذا، وبين ما تفعله السلطة بالفعل في الواقع المعيش. وفي هذا لا ينشغل الناس كثيرا بمبررات تلك السلطة، لأنهم دوماً يتذكرون الوعود التي قطعتها على نفسها، ويطالبونها بتحقيقها.
ويحتل اللوم حيزاً واسعاً من الحديث والحوار والثرثرة، ثم التصرفات السياسية في أي مجتمع، وإن اختلفت درجته، وطبيعة القضايا التي يدور حولها. إنه ابن الفجوة القائمة دوماً وأبداً بين تطلعات الناس، وبين الواقع الفعلي، الذي تخط معالمه تلك الفراغات الموجودة يبن الرغبات والقدرات.
وهنا يقول «ستيفن فاينمان» في كتابه «صناعة اللوم» الصادر ضمن «مشروع كلمة»: «إن اللوم يضرب بجذوره عميقاً في شؤوننا اليومية حتى بات من السهل اعتباره أمراً مفروغاً منه، تحصيل حاصل، سلوكاً اعتيادياً نمارسه فحسب. يكفي أن نطالع أي صحيفة وطنية، لنجد فيها أخباراً ومقالات عن اللوم. ولو أجرينا بحثاً عن الكلمة في أعداد اثني عشر شهراً من صحيفة نيويورك تايمز سنحصل على نحو 11 ألف نتيجة. ولأننا مهووسون باللوم، وفي الواقع فإن كثيراً من فهمنا للوم يتشكل من خلال الأخبار: وسائلها وسياساتها. وقد برهنت إثارة المخاوف الكامنة وتوجيه أصابع الاتهام على أنها صيغ يمكن الاعتماد عليها، فاللوم هو ما يصنع الأخبار، وهو ما يتيح ترويجها وبيعها، حيث يستغل البعض هذا الواقع بلا أي خجل، اللوم مهم، لأنه، على ما يبدو، يفسر بعض الأمور.. سيكون من الصعب أن نتصور مجتمعاً لا دور فيه للوم اللائمين، وغضب الأشخاص الذين يؤمنون بأنهم على حق، فمن دون لوم، ستكون القواعد الأخلاقية، أيا كان مصدرها، غير قابلة للتنفيذ، وستكون الهياكل القانونية غير مستدامة».
وبذا يكون اللوم السياسي في جانب منه هو تأكيد لفراغ ما، يملأه الناس بإثارة الغضب، الذي يخرج في شكل الحديث عن المسؤولية تجاه عدم النهوض. ولأن الجهات والأشخاص الذين يقومون بتوجيه اللوم في تعدد، بل في تكاثر، فإنه يزيد، ويعمل في طريقه على سد مساحة من الفراغ، الذي يمكن أن ينجم عن الصمت حيال ما يجري، أو التواطؤ معه، أو محاولة التغافل عنه.
فالمجتمع، وفق «فاينمان»، غني باللوامين، وهم أفراد ومؤسسات، وهم يعملون على مساءلة المؤسسات الخاصة والعامة، وهم بارعون في تشمم حالات الفساد، والممارسات غير الأخلاقية، إنهم مجموعة متباينة تضم منظمات غير حكومية، وهيئات تنظيمية رسمية، ومفتشين ومساهمين وصحافة ووسائل إعلام اجتماعي ووشاة، وكاشفي أسرار، ومخبرين أفراداً، وهم يمثلون معا طيفا مدهشا متعدد المعايير من الضمير الاجتماعي، ولكن بأهداف وأساليب متباينة جداً، من الراديكالية المتطرفة إلى البيروقراطية المتحذلقة.
وبالقطع فإن النظم السياسية تختلف في تفهمها، ومن ثم تعاملها، مع اللوم السياسي، فالمنفتحة منها، ترى أن من حق الناس أن يلوموا، وتنصت إلى ما يقولون، وتحاول أن تصلح من أمرها. والمنغلقة ترفض هذا اللوم.