لم يخطر على بال أي مسلم منذ أن تحولت الجزيرة العربية إلى الإسلام أن يأتي أحد ويتهم المسلمين بأنهم قد عادوا إلى الجاهلية، وكأن التاريخ يمضي بظهره، أو أن شخصاً أو قلة لا تلتزم بالدين هنا وهناك بوسعها أن تمثل قاعدة يقاس عليها كي يخرج حكم قاس يصف أمة محمد الآن بأنها صارت تابعة لأبي لهب.
ومع أن التيار العريض من المسلمين متمسك بالإسلام، ومعتز به، يخرج علينا منظر «الإخوان» الأول سيد قطب ليعلن «عودة الجاهلية»، مفسحاً الطريق لأخيه محمد قطب كي يؤلف كتاب «جاهلية القرن العشرين»، لو كان قد تحدث فيه عن أمم لم تصلها دعوة الإسلام لكان من الممكن أن يكون الأمر مستساغاً، لكنه، ويا للغرابة، ينعت المسلمين أنفسهم بالجاهلية، لمجرد أنه لا يريدون المضي على الدرب الذي خطته جماعة «الإخوان»، ويرون أن الإٍسلام يختلف عما تتصوره وتقوله وتفعله.
وكالعادة كان سيد قطب ينقل فكرته هذه عن أبي الأعلى المودودي الذي تعامل مع الجاهلية بوصفها منهج حياة يناقض نظرة الإٍسلام إلى الله وما وراء الطبيعة والكون والإنسان والحياة، محدداً ثلاثة أنواع منها: الجاهلية الصرف وقصد بها الحضارة الغربية، وجاهلية الشرك وهنا فتح الباب أما حشر مئات الملايين من العرب والمسلمين بدعوى أنهم يأتون بمظاهر للشرك توسع في تعيينها، وجاهلية الرهبنة ووضع فيها أهل الكتاب مع متصوفة المسلمين.
وقد وصف قطب المجتمع المصري، على وجه الخصوص، بأنه يعيش في جاهلية في لحظة صدام «الإخوان» مع نظام عبد الناصر. وبدلاً من أن يحاول قطب أن يفهم بطريقة موضوعية سر التفاف الأغلبية الكاسحة من المصريين حول عبد الناصر ولفظهم تنظيم «الإخوان» وأفكاره، سارع إلى اتهام الناس زوراً بأنهم قد عادوا إلى الجاهلية، وتفرغوا لمحاربة الإسلام، الذي هو في نظره دعوة «الإخوان» فقط، مثلما فعل مشركو الزمن الأول للرسالة.
لهذا لم يترو قطب وهو يطلقها صريحة زاعقة قائلا: «العالم يعيش كله في جاهلية»، ولم ير المسلمين استثناء من هذا، خالطا من الناحية الفقهية بين الفسوق والعصيان وبين الكفر، وبذا بدت الصغائر في نظره أكبر الكبائر، وأصبح كل شيء لا يتطابق مع المشروع «الإخواني» «خروجاً» من وجهة نظره على أحكام الدين، وتم التوسع في الأمور الداخلة في باب الاعتقاد إلى حد كبير، بما فتح طريقاً واسعة إلى التكفير.
وفتح اتهام المسلمين المعاصرين بالجاهلية باباً آخر لنظرية الحكم الإلهي، وفي نظر قطب فإن الجاهلية هي حكم البشر للبشر، والذي يعني عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله. وهنا يحاول أن يقنع، ضعاف العقول، أن السبيل لمواجهة تلك «الجاهلية» هي الإنصات إلى من يريدون أن يكون «الحكم لله»، وبذلك تولد الفرصة قوية ليقدم قادة «الإخوان»، وغيرهم من الجماعات والتنظيمات المتطرفة، على أنهم هم وحدهم الذين بوسعهم أن يأخذوا الناس إلى حكم الله، والذي لا يعدو أن يكون في النهاية حكم رجال منهم، يزعمون أنهم وكلاء الله في الأرض.
وتأثر اللاحقون من منظري «الإخوان» بوصف المجتمع المسلم المعاصر بأنه جاهلي، فقال «فتحي يكن»: «إن معظم الأقطار الإسلامية، إن لم نقل كلها، تحكم بأنظمة وضعية هي خليط من تشريعات رومانية ويونانية وفرنسية وغيرها، ما يجعل العمل لهدم هذه الكيانات الجاهلية واستئناف الحياة الإسلامية فريضة عين على كل مسلم حتى تعود للإسلام القيادة والقوامة».
ولا يمكن أن نفصل هذا التصور عن البداية التي قطعها مؤسس الجماعة حسن البنا، في نظرته التي تحاول أن تقنع أتباعه بأنهم هم فقط المسلمون والمؤمنون حقاً!