من القناعات الجوهرية لدى دونالد ترامب الجوهرية رفضه اتفاقات التجارة الحرة. ففي 2016، وصف اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، في تصريح لصحيفة «نيويورك تايمز»، بأنها «ربما أسوأ اتفاق تجاري وقّع على الإطلاق في تاريخ هذا البلد». كما اشتكى لصحيفة «واشنطن بوست» من «غباء الاتفاقات التجارية التي لدينا مع الصين واليابان والمكسيك». وفي مارس 2018، غرد على «تويتر» قائلاً: «عندما يخسر بلد (الولايات المتحدة) الكثير من المليارات في التجارة مع كل بلد تقريباً يتعامل معه تجارياً، تصبح الحروب التجارية جيدة، ومن السهل الفوز بها». وبعد سنة على ذلك، وصف الرسوم الجمركية بأنها «أفضل وسيلة تفاوض في تاريخ بلدنا».
واليوم، وبعد بضع سنوات على مراجعة ترامب الجذرية لسياسة الولايات المتحدة التجارية، يمكن القول إن النتائج محدودة. فقد أُعيد التفاوض حول اتفاقية التجارة الحرة الأميركية الكورية الجنوبية، لكنها لم تعرف سوى تغييرات رمزية. كما تم التفاوض بشأن اتفاقية جديدة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا لتخلف اتفاقية «نافتا»، إلا أن الاتفاقيتين متشابهتان جداً، كما أنه من غير الواضح إن كان لدى إدارة ترامب القوة السياسية لضمان التصديق عليها. والرسوم الجمركية على الفولاذ يبدو أنها لم تحقق الكثير عدا إفلاس منتجي الفولاذ الأميركيين. أما الحرب التجارية مع الصين، فأثارت الحديث عن الركود في الولايات المتحدة.
غير أنه للأمانة ثمة دينامية يمكن أن تجعل إدارة ترامب تبدأ الحوار بشكل أكثر إيجابية حول التجارة: إمكانية عقد بلد آخر اتفاقاً مع الصين. وفي هذا الإطار، لنتأمل ما كتبته «ألاينا ترين» من موقع «أكسيوس» الإخباري حول اتفاقية تجارة حرة ممكنة مع آيسلاندا: فهذه الدولة «تقدّم القليل للولايات المتحدة من الناحية المالية. لكن البلد القطبي يحتل موقعاً جغرافياً استراتيجياً، وفريق الرئيس للأمن القومي يشدد على أهمية الاستثمار في المنطقة». وتنقل «ترين» عن مسؤول في الإدارة الحالية قوله: «إن المنطقة تكتسي أهمية أمنية وطنية: القدرة على عقد اتفاقات تجارية وبناء تحالف معنا وليس مع الصين أو روسيا». وهذا ينسجم مع حلقات أخرى سابقة واجهت فيها إدارة ترامب النفوذ الصيني خلال السنوات الأخيرة.
وبالتالي فإننا نعلم أن إدارة ترامب ستكون مستعدة للتفاوض حول اتفاقية تجارة حرة إذا طرحت الصين أو روسيا تهديداً استراتيجياً لمنطقة حيوية بالنسبة للأمن الوطني الأميركي. وهو أمر عظيم، لكنه يثير سؤالاً: لماذا سحب ترامب الولايات المتحدة من الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، علماً بأن الفكرة من وراء «الشراكة» أصلاً هي تعزيز العلاقات الاقتصادية مع البلدان المطلة على المحيط الهادئ والمتوجسة من الصين؟
أعتقد أن الأمر تطلب بضع سنوات حتى تدخل الفكرة إلى رؤوس مسؤولي الإدارة الكبار، لكنها للأسف لم تدخل عميقاً. فمؤخراً، حاولت إدارة ترامب التفاوض بشأن اتفاقيات تجارية مع بلدان في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، ومثلما كتبت آنا سوانسون وفيندو جول من «نيويورك تايمز»، فإن الاتفاقيتين التجاريتين اللتين يتم التفاوض بشأنهما حالياً مع الهند ومع اليابان غير طموحتين إطلاقاً: إذ «خلافاً للاتفاقيات التجارية التقليدية، التي تغطي كل القطاعات الاقتصادية تقريباً، يبدو أن الاتفاقية مع الهند ستقتصر على بعض القطاعات والمنتجات فقط.. كما أن حجم الاتفاق مع الهند، وكذلك مع اليابان، يختلف بشكل مهم مع اتفاقيات واشنطن التجارية السابقة، مثل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية والشراكة العابرة للمحيط الهادئ».
وقد يبدو أن إدارة ترامب، بعد عامين ونصف العام في السلطة، أدركت أخيراً أنها بحاجة للتلويح بجزرات، إضافة إلى العصا، من أجل التنافس مع الصين على الساحة العالمية. لكن البيت الأبيض لا يجيد هذا النوع من الدبلوماسية الاقتصادية، لدرجة أن بضع اتفاقيات قطاعية متواضعة هي كل ما نستطيع الإشارة إليه باعتباره منسجماً مع آراء الرئيس بشأن التجارة. وبعبارة أخرى، لقد تطلب الأمر معظم ولاية ترامب الأولى للوصول إلى مرحلة حيث باتت سياساته تشبه نسخةً عشوائية مما فعلته إداراتٌ سابقةٌ في ما يتعلق بالتجارة.

*أستاذ السياسة الدولية بجامعة تافتس الأميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»