تطورات سريعة ومهمة حدثت وما تزال تحدث في المثلث التركي - السوري – العراقي، آخرها إعلان وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر سحب ألف عنصر من القوات الأميركية من شمال سوريا إلى غربي العراق لمواصلة الحملة ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، وفي المقابل تتقدّم روسيا لملء الفراغ، وهو ما يزيد من تعقيد الوضع على أرض الواقع حالياً وفي المستقبل. وكل ذلك يصب مرحلياً في صالح أنقرة التي استغلت الفرصة، فوافقت على المطلب الأميركي بوقف عمليتها «نبع السلام» في الشمال السوري ضد قوات سوريا الديمقراطية «قسد» التي التزمت بالانسحاب من «المنطقة الآمنة» المختلف على مساحتها، وهو تدخّل صارخ من جانبه بالأراضي السورية، وينمّ عن رغبته الدفينة بإعادة «أمجاد الدولة العثمانية»، وهو ما لن يتحقق له.
بحجة القضاء على الإرهاب وحماية حدودها وأمنها، بدأت تركيا حربها منذ عقود ضد الأكراد الأتراك المعارضين، وخصوصاً حزب العمال الكردستاني، ولن تنهِها إن لم تحقق مصالحها. وحتى إن أعلنت مؤقتاً تعليق عمليتها الأخيرة «نبع السلام»، لكن من المحتمل جداً أن تعود إليها لتستكمل هجومها على المناطق الشمالية السورية الموجودة فيها «قسد» وقوى كردية أخرى. وهو بالتأكيد أمر في غاية الخطورة في ظل وجود مئات آلاف المدنيين من السوريين الأكراد والعرب الذين يتعرضون للموت والتهجير. وبذات الحجة شنت تركيا منذ سنوات حرباً أخرى ضد «داعش» وعناصرها الذين تحتجز منهم «قسد» اليوم حوالي اثني عشر ألف عنصر، مع العلم أن «داعش» الذي استقر بين سوريا والعراق ويشكّل خطراً كبيراً على استقرار المنطقة العربية كاملة، كان قد اتّخذ من تركيا مركزاً مهماً لعناصره، ليس فقط من ناحية العبور إلى الأراضي السورية والعراقية، إنما كذلك من حيث تسيير عملياته وتيسير نقل الأموال لتمويلها.
يستمر الجانب التركي على نفس ديدنه، فيحرك الأحداث -وأحياناً يعمل على خلقها - بما يتوافق مع مصالحه وبما يضمن له فرصة كسب أوراق جديدة كي يلعب بها متى ما أراد وبالطريقة التي يرتئيها ليستفز العالم من حوله ويبتزّه. فقبل أيام وجه الرئيس رجب طيب أردوغان تهديداً صلفاً لدول أوروبية ذات ثقل استراتيجي لا يستهان به، عندما لوّح بورقة مستقبل اللاجئين السوريين الموجودين حالياً على الأراضي التركية من أجل تمريره فكرة إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري ليعزز دوره الإقليمي. وقد أدانت تلك الدول عمليته «نبع السلام» بما تنطوي عليه من مخاطر، وأوقفت بالفعل تصدير الأسلحة إلى تركيا كعقوبة لأردوغان إلى جانب عقوبات من دول أخرى، وهو ما يعني أن تركيا تكاد تخسر معظم حلفائها إن لم أقل جميعهم.
القارئ للأحداث والتصريحات والمواقف، يجد أن الطرح الذي قدمه نائب الرئيس الأميركي مايك بنس بشأن وقف العملية العسكرية التركية ضد «قسد» يمثّل طوق نجاة للرئيس التركي الذي تمكّن من إعادة ترتيب بعض أوراقه، فكسب نقاطاً جديدة بعد أن كان قد خسر عدداً من حلفائه السياسيين وأنصاره في الشارع التركي، إلى جانب ما خسره الاقتصاد التركي. فعلى مدار سنوات قاد «المشروع الأردوغاني» بلداً بأكمله نحو علاقة شائكة ومتردية مع معظم دول العالم، إلى جانب ما حدث من انهيار في السوق المحلية نتيجة الخسارات المستمرة، بدءاً من ارتفاع معدلات التضخم، وزيادة أسعار السلع، وارتفاع نسبة البطالة، وانهيار قيمة العملة، وصولاً إلى ارتفاع قيمة الديون الخارجية والمحلية على حد سواء، إلى جانب هروب رؤوس الأموال الأجنبية، وانسحاب الأموال الساخنة المستثمرة في أدوات الدين الحكومية مثل أذون الخزانة والسندات وسوق المال.
صحيح أن الرئيس التركي حقق تقدمّاً سيساعده مؤقتاً في إنقاذ وضعه الداخلي، لكن يجب ألا ننسى في المقابل أن العلاقة بين الجانبين الكردي والأميركي هي استراتيجية وطويلة المدى، وعليه فإن اكتمال أركان أخرى من المشهد العام أمر سيتحقق مستقبلاً لتبدو الخارطة السياسية للمنطقة أكثر وضوحاً، والتي يبدو أن الجامعة العربية لن تستطيع خطّ أي جزء فيها. وللأسف العميق تضاءل دورها مؤخراً وتراجع، كما أنها باتت عاجزة عن اتخاذ موقف عملي حيال أي قضية عربية- عربية، ولا تتمكن من حماية الأمن القومي العربي، وليس لديها القدرة على تنفيذ المعاهدات التي وقعها القادة العرب أنفسهم، كما أن إدانتها للموقف التركي لم تحرك ساكناً.
إن كل ما هو موجود على أرض الواقع، وبناءً على السياسات المعتمدة والمواقف المتّخذة والتحالفات القائمة والمتجددة، والتفاهمات بين الأطراف المتعددة، تؤكد حقيقة مؤسفة وخطيرة في آن معاً، وهي أن مستقبل سوريا من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها ليس في أيدي أبنائها المخلصين، ولا في أيدي العرب كذلك.
لقد أصبح مستقبل سوريا ومصيرها منذ عدة سنوات خارج حدودها تماماً، سواء على مستوى الصراع الداخلي – الداخلي الذي تدخّلت فيها أطراف كثيرة، أو على مستوى صراع القوى الدولية فيما بينها من أجل تحقيق مصالحها على الأرض السورية. حتى فيما يتعلق بانتشار الجيش السوري في مناطقها أمر لا تقرره حكومتها، إنما هي مسألة خاضعة لمن يملك القوة على الأرض بشكل مباشر أو عبر وسيط يلعب الدور المحدّد له في حرب أقل ما يقال عنها إنها مستنقع، وليس هناك أي أفق مرتقب لجفاف هذا المستنقع أو تجفيفه في القريب العاجل، ولا حتى هناك أي صورة واضحة لما ستنتهي عليه الأمور، ذلك أن المعادلة صعبة، وشيفراتها معقّدة، والتغيّرات التي تطرأ عليها.
على التراب السوري تتشابك الملفات والأزمات، وتتداخل المصالح رغم التباعد السياسي الكبير أحياناً بين الأطراف الأساسية الداخلة في الصراع، ولذلك لا يزال الوقت مبكراً للحديث عن المآلات، كما أننا لا نزال ننتظر خلال الأيام القليلة القادمة ما سيكشف عنه الساسة الأميركيون، وما سينجم عن اجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس التركي المقرر اليوم 22 من الشهر الجاري في مدينة سوتشي الروسية، وذلك على خلفية العمليات العسكرية التركية شمال شرق سوريا، وهو ذات اليوم الذي حددته تركيا لإعادة شن حربها على «قسد» في حال لم تلتزم بشروط وقف الهدنة.