للفرد حق فطري في التعبير عن رأيه، فهو من دون رأي يعبّر به عن نفسه مجرد لحم وعظم، وللمشرّع حق مشروع في وضع القيود على حرية الرأي، إذ كل الحقوق قابلة للاستغلال، والقانون يعترف من جهة بالحق ويكفل طرق استيفائه، وينظّم من جهة أخرى تلك الطرق لئلا يُساء استخدام الحق، فلا يمكن تبرير الحض على العنف بداعي حرية الرأي مثلاً.
وتعالج القوانين العربية المنظمة لحق حرية الرأي المسألة من جانبين، الأول يتعلق بالأفعال المجرّمة التي تقترف عبر الرأي بالكلمة، أو الصورة، أو الرسم، أو الإشارة، كالإساءة، والإهانة، والتجني، والتشويه، والبلبلة، والزعزعة، والتحقير، والازدراء.
والجانب الثاني يتعلق بالمصالح المحمية من الاعتداء عليها من خلال الرأي، كالمقدسات، والنظم الأساسية، والمشاعر القومية، والسلم الاجتماعي، والآداب العامة، والوضع الاقتصادي، والسمعة، والكرامة.
إذاً القانون ينهي عن سلوك بهدف حماية مصالح، فالنهي وسيلته والحماية غايته، لكن ثمة مشكلة فنية في القوانين المتعلقة بحرية الرأي، إذ الأفعال التي تجرّمها غير محددة كتحديد أفعال مثل القتل والسرقة والاغتصاب والتزوير والإتلاف، والمصالح التي تحميها لها تعريفات كثيرة، على عكس مفاهيم كالأرواح والممتلكات والأعراض والمحررات التي تعرّف نفسها بنفسها.
وتتجنب القوانين وضع تعريف للأفعال المجرّمة والمصالح المرعية فيما يتعلق بحرية الرأي، لأنه لو كانت ثمة تعريفات لاحتاجت بدورها إلى تفسيرات، فإذا اجتهدتَ لوضع تعريف لـ«السب»، فستظل تتنقل بين مفردات كالتحقير والازدراء والتشويه، والعكس إذا عكفت على وضع تعريف لـ«التحقير». كما أن وضع التعريفات مهما كانت كاشفة، سيؤدي إلى عجز القانون عن معالجة التغيرات في المفاهيم.
إذاً متى نقول إن هذه العبارات تؤدي إلى بلبلة الأفكار عن الوضع الاقتصادي، ومتى نقول إنها تحليل اقتصادي يقوم على معطيات؟ ومتى نقول إن هذا المقال مهين للمشاعر القومية، ومتى نقول إنه يناقش ظاهرة اجتماعية بأسلوب حاد؟ ومتى نقول إن هذه الكتابة من شأنها زعزعة الثقة في المؤسسات؟ ومتى نقول إنها مجرد مغالاة في النقد لا تستوجب العقاب؟
ولا تواجهنا صعوبة في معرفة الإساءة من عدمها حين تكون العبارات مباحة أو غير مباحة بشكل واضح، لكننا نواجه عسراً أمام اللون الرمادي إذا كان لا بد من وصفه بالسواد أو البياض، إذ ليس في التجريم منطقة رمادية، ولا يكون الفعل الواحد مباحاً ومجرماً في الآن معاً.
في المنطقة الرمادية الواسعة من التعبير عن الرأي نعود إلى المحكمة التي هي المرجع الأول والأخير الذي يبين الخيط الأبيض من الأسود في المسألة، ومنها نعرف المقاس الحقيقي للأفعال والمصالح التي صاغتها القوانين بشكل فضفاض، ولا يفعل القضاء ذلك بشكل مسبق، وإنما وهو بصدد إصدار الحكم في واقعة معينة. ورغم أن الفقه القانوني يلعب هذا الدور بشكل استباقي من خلال شرح القوانين والتعليق عليها، إلا أن القضاء غير ملزم بالأخذ بتفسيرات الشرّاح، وإنما قد يستأنس القاضي بها ويستند إليها.
والنتيجة التي ننتهي إليها هي أن الفرد يخفّض بنفسه من سقف حريته في الرأي لأنها الضمان لئلا يقع في المحظور الواسع الفضفاض الذي لا يمكنه معرفة أين يبدأ وأين ينتهي بشكل مسبق.