من طبائع الأمور أن يثير ظهور وباء جديد، أو قديم جربه العالم من قبل، قلقاً يزداد بمقدار قدرته على الانتشار. ويبلغ هذا القلق ذروته عندما تعلن منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ صحية دولية، كما حدث في 30 يناير الماضي، بعد أكثر من خمسة أسابيع على ظهور أول إصابة بفيروس كورونا الجديد في ووهان الصينية. ويُعد إعلان هذه الحالة مؤشراً إلى حجم الوباء والتكلفة المترتبة على انتشاره.
ولا يمثل الإنفاق العام الضروري لمواجهة هذا الانتشار إلا جزءاً من تكلفة الأوبئة التي تُقاس أساساً بالخسائر في الأرواح والاقتصاد. وقد اختلفت تكلفة الأوبئة، في شقيها المتعلقين بالأرواح والاقتصاد، في العقود الأخيرة مقارنة بما كانت عليه قبل قرن من الزمن فقط. ورغم أن فقد أي إنسان بسبب وباء أو أي مرض، خسارة في ذاته، فقد أصبحت التكلفة الاقتصادية المترتبة على انتشار الأوبئة هي الأكبر نتيجة التقدم السريع الذي يحدث في العلوم الطبية، وفي الإجراءات الاحترازية السريعة التي تراكمت خبراتها في العقود الأخيرة، خاصة منذ تأسيس منظمة الصحة العالمية عام 1946، وإنشائها مكاتب في عدد متزايد من الدول (150 مكتباً وستة مكاتب إقليمية). لم تكن هذه المنظمة موجودة، عندما فتكت أوبئة بأعداد مهولة من البشر قُدرت بعشرات الملايين. كان الزمن غير الزمن عندما أودى فيروس الإنفلونزا الإسبانية بأكثر من 40 مليون شخص عامي 1918 و1919.
لكن الأوبئة الأشد خطراً لم تعد تقتل أعداداً مهولة على هذا النحو في عصرنا. ويصعب توقع عدد ضحايا النسخة الجديدة من فيروس «كورونا» مقارنة بسابقتها التي أودت بحياة 38 شخص من بين نحو ألف وستمائة أُصيبوا بها في كوريا الجنوبية عام 2015. وقد أحدثت أوبئة أخرى خسائر بشرية أكثر في تلك الفترة، كان أهمها بسبب انتشار فيروس «إنفلونزا ?الخنازير» ‏(H1 N1) ?الذي ?ظهر ?للمرة ?الأولى ?عام ?2009، ?وفيروس «?سارس» ?الذي ?ظهر ?في ?الصين ?عام ?2002 ?وانتشر ?في ?عدة ?دول ?في ?شرق ?وجنوب ?شرق ?آسيا ?حتى ?عام ?2004، ?وراح ?ضحيته ?حوالي ?2000 ?شخص. ?لقد ?أصبح ?ضحايا ?أوبئة ?العصر ?الراهن ?يقدرون ?بالآلاف، ?وليس ?بالملايين، ?بخلاف ?الحال ?في ?أوقات ?ليست ?بعيدة.
وساهم تقدم الطب، والإجراءات الاحترازية، في تقليص أخطار أوبئة حصدت أرواحاً يتعذر تقدير أعدادها في مرحلة ما قبل علم الإحصاء، مثل الكوليرا والملاريا والسُل، وغيرها. ولنقارن مثلا بين عدد ضحايا وباء الكوليرا حين انتشر في بداية القرن الماضي، حيث بلغ نحو ثمانمائة ألف شخص، ثم عندما ظهر في هايتي مثلاً عام 2012، إذ كان عددهم نحو ستة آلاف وخمسمائة.
لكن مقابل تناقص الخسائر البشرية، ازدادت التكلفة الاقتصادية للأوبئة، بسبب التحولات الكبرى التي عرفها الاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة، وتعاظم الاعتماد المتبادل وتشابك العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية والمصرفية بين الدول.
ولذا، تقترن الجهود المبذولة الآن لوقف انتشار فيروس «كورونا» الجديد بأسئلة عن آثاره على الاقتصاد العالمي، وفي الذاكرة خسائر زادت عن 50 مليار دولار بسبب وباء «سارس»، الذي كان أقل خطراً بكثير، بين عامي 2002 و2004. لقد أدت التحولات العولمية إلى انتشار أي وباء أو مرض معد في أنحاء عدة، على نحو يجعله مُهدداً للاقتصاد العالمي عموماً وليس في دولة أو منطقة واحدة، رغم أن عدد ضحاياه أصبح أقل.
ويبقى ذلك التهديد قائماً، لاسيما حين ينتشر المرض في دولة ذات ثقل اقتصادي وسكاني كبير. لذا فالتراجع المتوقع هذا العام قد يمتد إلى دول أخرى بمقدار المدى الذي سيبلغه انتشار الوباء، نتيجة اضطرار بعض الشركات لوقف أنشطتها، وإحجام مستثمرين عن الاستثمار، وتناقص معدلات التبادل التجاري والسياحي، وانخفاض الإنتاجية بسبب إجراءات السلامة من جانب الشركات والمصانع.

*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية