بعدما علمت أن صديقاً لي على السوشال ميديا (كتمَ) إلكترونياً كلمة (كورونا) في حسابه، كي لا تصله الأخبار السيئة حول هذا الفيروس، التي سببت له ولأهله صداعاً وشيئاً من القلق، واستبقى وسيلة محلية رسمية لاستلام الأخبار عبرها، سألته المساعدة لأقوم بما قام به للتخلص من كم الأخبار غير المتخيّل حاملةً الضيق وكدر النفس. فما رأيت سلاحاً أكثر فتكاً بالأمن الاجتماعي في بلد من البلدان، من بث الأخبار السيئة والمضللة التي تخلق البلبلة لدى أفراد المجتمع، والتاريخ البشري مليء بالأمثلة الدالة.
في (الحرب الكوريّة) التي نشبت بين شطري كوريا الشمالي والجنوبي (1950 - 1953م)، بعد أن كانت دولة موحدة ومحتلة من قبل اليابان، ونالت استقلالها في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م، لكنها خرجت من الحرب العالمية منقسمة بين قطبين، «الجنوبية» أميركية، و«الشمالية» سوفييتية، فأرادوها أن تعود دولة موحّدة كسابق عهدها، عبر عملية انتخابات أجريت عام 1948م، إلاّ أن كل شطر حرص على جر الآخر إلى أيديولوجيته، «الجنوبية» رأسمالية، و«الشمالية» اشتراكية، كما هو وضعهما الحالي. كان لا بد من هذه المقدمة المقتضبة، لنلج إلى موضوع الجنرال «ويليام ماير»، رئيس المحللين النفسيين في الجيش الأميركي وقتذاك، وما ذكره في كتابه (العذاب الصامت.. سجن بلا جدران). لقد تنبّه «ماير» إلى واحدة من أعقد القضايا في تاريخ الحروب في العالم وعكف على دراستها. تتلخص القصة في أنه خلال الحرب الكورية المذكورة، جرى أسر وسجن حوالي ألف جندي أميركي في كوريا الشمالية، وأقيم لهم سجن عبارة عن مخيم يتوافر على كافة مزايا السجون لجهة المواصفات الدولية، ومن حيث مطابقته للقوانين ذات الصلة بالأسر والأسير، فقد كانت الخدمات المقدمة للأسير جيدة، وكذلك معاملته حسنة، ولم يكن يجري تعذيبه بأي أسلوب. لم تكن للسجن أسوار عالية كبقية السجون المعروفة، بل كان يمكن للسجين محاولة الهروب منه إلى حد ما. لكن التقارير كانت تشير إلى عدد الوفيات في هذا السجن بالتحديد على عكس ما يحدث في السجون الأخرى، وهي لم تكن نتيجة لمحاولة فرار، بل كانت ناتجة عن موت طبيعي، فالكثير منهم كانوا ينامون ليلاً ويطلع الصباح وقد توفوا. على الرغم من أن علاقتهم ببعضهم بعضاً كانت صداقية، وعلاقتهم بسجانيهم كانت ودية. الجنرال «ماير» أخذ سنوات في دراسة هذه الظاهرة المحيرة، لكن في النهاية اكتشف اللغز.. ويا له من لغز. لخص استنتاجاته القائمة على كم من المعلومات والمقابلات، بنقاط محددة. الأولى، كانت الرسائل والأخبار السيئة فقط هي التي يجري إيصالها إلى مسامع السجناء، أم الأخبار الجيدة/ المفرحة فقد كانت تحجب. الثانية، كانوا يأمرون السجناء بأن يتحدثوا على الملأ بذكرياتهم السيئة، كخياناتهم وخذلاناتهم لأصدقائهم أو معارفهم. الثالثة، كان كل من يتجسّس على زملائه المسجونين يكافأ بعلبة سجائر. والطريف أنه لا تجري معاقبة المخالف للضوابط حينما يتم العلم بمخالفته عن طريق زميله الواشي، مما شجع الجميع أن يتجسس على الجميع، والعمل لا يشكل خطراً على أحد. النتيجة المكتشفة لهذه التقنيات الثلاث كانت السبب في تحطم نفسيات هؤلاء السجناء إلى حد الموت.. (فالأخبار «السيئة فقط» كانت تفقدهم الأمل بالنجاة والتحرر، وحديثهم على الملأ عن الذكريات السيئة كالخيانة أو التقصير والخذلان، كان يفقدهم احترامهم لأنفسهم، واحترام من حولهم لهم. وتجسسهم على بعضهم بعضاً كان يقضي على عزة النفس لديهم، ليشعروا بأنهم (..) وعملاء، وهذه مجتمعة كانت كفيلة بالقضاء على الرغبة في الحياة لديهم والموت الصامت). مقطع القول: لتقضي على مساحة الأخبار السيئة والبلبلة استمع إلى القنوات الوطنية والمنصات الرسمية.