إذا كانت دوائرك وعلاقاتك الاجتماعية تشبه دوائري وعلاقاتي الاجتماعية، فأغلب الظن أنكَ أمضيت ليل الثلاثاء -الأربعاء في تبادل رسائل حزينة. والواقع أن ليس كل أصدقائي وأقاربي كانوا غاضبين، ومصدومين، ومحطَّمين.. وإنما الكثير منهم كانوا كذلك، حيث يرون في انتصار ترامب انتصاراً لتفوق العرق الأبيض، ولكره النساء، ولمعاداة المهاجرين.. وللسلطوية أيضاً. كنت قد حللتُ ضيفاً على قناة «بي بي إس» قصد تحليل ما يجري. وفي الأثناء كنت أحاولُ إرسال بعض الرسائل إلى أشخاص مختلفين لتهدئتهم. وفي لحظة من اللحظات، كنتُ أعلّق على النتائج عندما توصلتُ على هاتفي برسالة تقول: «غيّروه! غيّروه! غيّروه!». ردود الفعل العاطفية تلك كانت تمثل رداًّ ملائماً في الليلة الأولى على أكبر صدمة سياسية في حياتنا، غير أنها ربما ليست أفضل رد فعل على العهد المقبل. فأولاً، المشاعر من قبيل التقزز والاشمئزاز ليست منصفة بحق الطبيعة المعقدة لأنصار دونالد ترامب، ثم إن الموقف المتقزز يمكن أن يحوِّل السياسةَ إلى حرب أهلية «مانوية» بين «أطفال النور» و«أطفال الظلام»، بيننا نحن المتسامحين والمستنيرين والمتعلمين في الجامعات، من جهة، وقطيع البدائيين المفترضين الذين تقودهم المخاوفُ والأحكام الجاهزة الظلامية، من جهة ثانية. والحال أن هذا الموقف المتعالي والقاسي والجاهل هو ما يغذّي ظاهرة ترامب ويقوّيها أصلاً. ثانياً، إننا بكل بساطة لا نعرف بعد حجم العنصرية أو كره النساء الذي حرّك ناخبي ترامب. صحيح أن أولئك الناخبين مستعدون لتقبل قدر أكبر بكثير من التعصب من مرشحهم مقارنةً بما قد أتقبله أنا، غير أنه إذا كنتَ تعيش في بلدة لا وظائف فيها، وتشاهد أصدقاءك يتناولون جرعات زائدة من الأقراص المخدرة، ويكافحون كل شهر لتسديد فاتورة الكهرباء، ثم يأتي رجل يبدو قادراً على حل مشاكلك، فربما ستتحمل بعض الأشياء القبيحة فيه أيضاً وتغض الطرف عنها. ثالثاً، الغضب والتقزز يعوقان التعلم، فهذا القرن ما زال قيد التشكّل ولا أحد منا يفهمه بعد. لقد بدأ القرن في الحقيقة في 11 سبتمبر، وقد تميز حتى الآن بردود فعل قوية ضد العولمة والكوزموبوليتانية والإرهاب والقبلية والسلطوية. والواقع أن الشعبوية من قبيل ترامب ولوبين و«بريكسيت».. كانت دائماً إشارة تحذير من أن ثمة خللًا أعمق في أنظمتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، غير أنك إذا أردتَ تلقّي تلك الإشارة والتقليل من شأنها باعتبارها مجرد تعصب، فإنك لن تتوقف من أجل فهم ما يجري ولن تعرف كيف ترد عليه بشكل بنّاء. رابعاً وأخيراً، من المهم أن نتحلى ببعض التواضع ونبدي استعداداً للتعلم واستخلاص العبر من نتيجة الانتخابات المروعة هذه، فمشكلة ترامب الرئيسة في الحكم لن تكون نوعاً من الأيديولوجيا الفاشية، وإنما أمد تركيزه القصير وعدم كفاءته، ويمكن القول إنه إذا تفرّغ لإلقاء خطاباته الطويلة، بينما يتفرّغ آخرون لإدارة شؤون البلاد وتنفيذ مخطات البنى التحتية، فربما لن تكون الأمور كارثية. أما مهمة بقية الأميركيين، فهي إعادة العمل على توحيد نسيج مجتمعنا وتماسكه، وتشكيل حركة سياسية لمرحلة ما بعد ترامب، وأظن أن الحركات السياسية المقبلة ستتحدد وفق محورين: مفتوح ومغلق وفردي واجتماعي، فالأشخاص الذين يؤمنون بـ«المفتوح» يؤمنون بتجارة مفتوحة، وهجرة مفتوحة نسبياً، وسياسية خارجية نشطة، واندماج عرقي. أما أولئك الذين يؤمنون بـ«المغلق»، فيؤمنون بتجارة حمائية، وحدود مغلقة، وسياسة خارجية متقوقعة، وانفصال عرقي. والأشخاص الذين يؤيدون «الفردي» يؤمنون بالمبادرة الفردية، وتصميم برامج لتحفيز المبادرة الحرة، وإزالة العراقيل القانونية والتنظيمية. أما أولئك الذين يؤمنون بـ«الاجتماعي»، فيؤمنون بأن الحركية تحدث داخل المجموعات الغنية، وأن الناس يستطيعون خوض مغامرات جريئة عندما تكون لديهم قاعدة اجتماعية وعاطفية آمنة. وشخصياً، أعتقدُ أننا بحاجة إلى حزب ثالث يكون اجتماعياً ومفتوحاً. حزب يدعم التجارة الحرة وهجرة العمالة الماهرة، ويهتم بمشاكل الأميركيين الذين يواجهون تحدياً من قبل اقتصاد عالمي عالي المهارة فيقدّم برامج لإعادة بناء المجتمع، ويعزّز الأمن الاقتصادي، ويقوّي الحركية والصعود الاجتماعي. ديفيد بروكس محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»