لم يكن من قبيل المصادفة، أن يختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب العاصمة البولندية وارسو تحديداً، لإلقاء أحدث خطاب من خطبه التي يحذر فيها عادة من الأخطار التي تواجه الغرب. ومن جانبها حرصت الحكومة اليمينية القومية في بولندا على أن توفر للرئيس الأميركي منصة مناسبة قبل اجتماعه مع زعماء مجموعة العشرين، الذين قد لا يتسع صدرهم لسماع أفكاره. وقام الحزب الحاكم في بولندا بنقل مؤيدي ترامب بالحافلات من المناطق الريفية الواقعة في مختلف أنحاء البلاد إلى العاصمة، كما تجمع حشد كبير يحمل الأعلام البولندية والأميركية في الميدان الرئيسي، ويحمل بعضه لافتات كُتب على إحداها «اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى». ثم ألقى ترامب خطابه وحذّر من الأخطار التي تواجه أميركا وأوروبا، خصوصاً تلك المتعلقة بالتطرف الإسلامي والهجرة، بوصفها «تحديات وجودية». وقال: «السؤال الأساسي حالياً هو ما إذا كان الغرب يمتلك إرادة البقاء». وفي إطار رؤيته التشاؤمية لمستقبل وجود الغرب، أضاف: «يمكن أن يكون لدينا أكبر الاقتصادات، وأكثر الأسلحة فتكاً على ظهر الأرض، لكن إذا لم تكن لدينا عائلات قوية، وقيم قوية، فمعنى ذلك أننا سنكون ضعفاء، وغير قادرين على البقاء في هذا العالم». وختم ترامب خطابه قائلا: «أعلن اليوم للعالم أجمع أن الغرب لن ينكسر أبداً، أبداً. وأقول أيضاً إن قيمنا ستسود، وإن شعوبنا ستزدهر، وإن حضارتنا ستنتصر». لكن السؤال هنا هو: أي قيم؟ وأي شعوب؟ وأي حضارة؟ فترامب، قبل كل شيء، كان قد عبر بوضوح من قبل عن رؤية للغرب تختلف عن رؤية المؤسسة السائدة. فمستشارو ترامب، مثل ستيفن كيه بانون، وستيفن ميلر، ومايكل انتون وزملائهم، ليسوا قوميين يمينيين فحسب، وإنما هم أيضاً من كبار المشككين في النظام الدولي القائم، ومن المعادين للتعددية الثقافية ولفكرة القيم العالمية في حد ذاتها، كما يأنفون من الالتزامات المتعددة الأطراف التي ميزت عملية صنع السياسة في الولايات المتحدة لما يزيد على نصف قرن من الزمن. والمفارقة في إلقاء خطاب يتضمن مثل هذه الأفكار في بلد مثل بولندا تحديداً، تكمن في أن العديدين في أوروبا، ينظرون إلى حكومة هذا البلد على أنها تمثل تهديداً للقيم الغربية. ومما يؤكد هذه الحقيقة أن الاتحاد الأوروبي أصدر إنذاراً رسمياً لحكومة بولندا يحذرها فيه من أن التغييرات التي أجرتها على محاكمها الدستورية تمثل «خطراً ممنهجاً لحكم القانون». ويوم الخميس كانت هناك علامات واضحة على الرغبة الأوروبية الجديدة في تأكيد الذات، وذلك عندما أعلن الاتحاد الأوروبي عن اتفاقية تجارة حرة تاريخية مع اليابان، تشمل 30% تقريباً من حجم الاقتصاد العالمي، و40% تقريباً من حجم التجارة العالمية حسبما قال المسؤولون. وقد صرح جان كلود جانكر، رئيس المفوضية الأوروبية، بأن هذه الاتفاقية «تبين أن انغلاقنا عن العالم، ليس بالشيء الجيد للتجارة، ولا للاقتصاد العالمي، ولا للعمال، فعلى حد علمنا فإن الحمائية لا توفر أي حماية». والتوترات بين «محلية» ترامب وبين «العولمة» الكوزموبوليتانية، لن تُحل في أي وقت قريب. حول هذه النقطة كتب «يوجين روبنسون»، كاتب العمود الشهير في «الواشنطن بوست» يقول: «ليس هناك شيء نقي بشأن الحضارة الغربية.. فقدرتها على استيعاب وإدماج التأثيرات الخارجية أثبتت ما تتمتع به من قوة هائلة، وليس ما تعانيه من ضعف».