إذا كانت الدولة هي التجسيد السياسي الأبرز في عالمنا المعاصر، فإن القادة التاريخيين أو المجموعات النشطة التي أقامت الدول ما لم تكن تمتلك خيالًا سياسياً واسعاً ما كان بوسعها أن تعلن قيام دولة، سواء على أنقاض الاستعمار، أو بعد انتهاء زمن الإمبراطوريات التي تعاقبت على التحكم في العالم القديم والأوسط والحديث. وهناك بلدان كثيرة صنعت فيها الدولة الأمة، التي تقوم على حقائق اقتصادية واجتماعية وإقليمية، ولكن هذا تم عبر إجراءات شاملة نفذتها إدارات اقتصادية وضريبية وتعليمية، إلى جانب التوظيف والتجنيد ووسائل الإعلام والمنظمات الثقافية. وكل ذلك جعل الأمة حقيقة أو أمراً واقعاً يفرض نفسه على إدراك وتخيل أعضائها، ولكنه لم يفرض بالضرورة شعوراً بالتضامن أو الولاء بين الأشتات التي تشكل هذه الأمة. وقد ينطبق هذا الأمر على الآباء الأوائل الذين أعلنوا قيام الولايات المتحدة بعد حرب أهلية ضروس، أو على القادة المؤسسين في دول عديدة، الذين تحمسوا لدمج مجموعات بشرية مختلفة في بعض الخصائص، كالدين أو المذهب أو العرق أو اللغة، لتكون دولة مستقلة، لها علم ونشيد، ولها دستور يشكل الإطار العام والأساسي الذي يحكم العلاقة بين مواطنيها. وينطبق أيضاً على التجارب الوحدوية في بلدان عدة. وقد يمتد تخيل تاريخ الجماعات البشرية إلى حد قيامها باختراع تراث لها، فكثيراً يكون ما يتصور أنه ثقافة أصيلة يجب المحافظة عليها أو عدم الخروج عليها ما هو إلا ثقافة مخترعة أو مستحدثة أو مبتدعة أو مستزرعة نشأت في ظروف معينة. إن بوسعنا هنا أن نتحدث عن «التقاليد المبتدعة»، أو التراث المتخيل، بمعنى واسع، يشمل تلك التي تم ابتداعها فعلًا، وتلك التي تم إنشاؤها وأخذت شكلًا مؤسسياً، وتلك التي تنشأ بطريقة يتعذر تتبع مسارها خلال مرحلة زمنية قصيرة يمكن تحديد تاريخها، والتي تثبت نفسها وترسخ قواعدها بسرعة بالغة. وقد اخترع سكان المرتفعات في أسكتلندا تقاليد لهم سبكوها لتصير طقساً لاحتفالهم بشخصيتهم الوطنية، التي سعوا إلى أن يكون لها طابع مميز عن سائر الجزر البريطانية، على الرغم من أن سكان المرتفعات الأسكتلنديين لم يشكلوا في أي حقبة تاريخية شعباً مميزاً، على الأقل قبل السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر، بل كانوا ببساطة يمثلون الزائد من التدفق السكاني الوافد من إيرلندا، ليجعلهم البحر، كسائر البريطانيين، مدفوعين إلى التوحد، ومع هذا اختاروا الفرقة والتميز، ولم يكن هذا ممكناً إلا باختراع تاريخ اجتماعي وفلكلور مختلف. وقد أعاد الدارسون والوطنيون في ويلز اكتشاف تقاليدهم التاريخية واللغوية والأدبية الغابرة، بعد أن كانت شخصيتهم الاجتماعية تكاد تُطمس تماماً تحت سطوة العادات الإنجليزية، وتفقد جاذبيتها المعروفة. وعندما وجد هؤلاء أن التقاليد التي عملوا على إحيائها ليست كافية، راحوا يتخيلون ماضياً لبلادهم غارقاً في الرومانسية والأساطير الجاذبة، لم يكن له وجود في واقعهم البعيد. وأعاد البريطانيون أنفسهم اختراع طقوس حافلة بالأبهة والفخامة ليربطوها بالملكية، ويحافظوا عليها، على الرغم من تعاقب القرون، وهي طقوس تعود إلى أكثر من ألف عام، وقت أن كان هناك تنافس دولي حاد، وكان الانتصار يستحق كل هذه الأبهة. وبينما كانت الملكية تغور في بعض بلدان أوروبا وتأخذ معها تقاليدها القديمة، كانت الملكية في بريطانيا تنتعش، وتنتعش معها «التقاليد المبتدعة»، من استعراض التيجان والأوسمة والمفاتيح الذهبية والعصي والصولجانات البيضاء، والقصبات السوداء، والفراء الأبيض الناعم، وباروكات الشعر.. الخ. وعمد الاستعمار الأوروبي لأفريقيا إلى اختراع تقاليد وثقافات راحت ترسخ جذورها بمرور الزمن، وصارت طيعة بين أيدي المؤرخين والسياسيين ودعاة القومية وجامعي الموروث الشعبي ودارسيه، وكلها تؤكد المسار الرمزي أو المعنوي الذي أخذه اختراع جماعات سياسية بل دول بأكملها.