في نظري أرذل أنواع الأميّات هي «الأمية المنهجية»، رغم انشغالنا طويلاً بأشكال أخرى منها مثل الأميّة الأبجدية والثقافية والسياسية والإلكترونية.. إلخ. فالعلم بمدخله وليس بموضوعه، ومن ثم فإن امتلاك القدرة على التفكير السليم هو الأساس، ليس لمن يعملون في السلك الجامعي أو مراكز البحوث فحسب بل لسائر مواطني أي دولة. فمثل هذه الفضيلة تمكّنهم من الارتقاء بحيواتهم الخاصّة ومجتمعاتهم حين يفهمون الأمور على وجهها السليم، ويمتلكون منعة حيال أي أساليب للتلاعب بعقولهم، ويتفاعلون سريعاً وبإيجابية مع كل إشارات أو تصرّفات أو تدابير تقوم بها الإدارة، ويكون من شأنها تحقيق المصلحة العامة. وعلى المِنوال ذاته يمتلكون ردّ فعل سريعا وإيجابيا حيال أي تصرّفات تسير في الاتجاه المُعاكس، فيمنعون الضرر عن مجتمعاتهم التي لا سبيل إلى ارتقائها سوى بالعلم. والأميّة المنهجية، التي تعني غياب طريقة منضبطة وعملية في التفكير، تلك لا علاقة لها بمستوى تحصيل المعلومات، الذي بالغ البعض في تقدير أهميته إلى درجة أنه قد جعل منه الثقافة نفسها، وصار المثقف هو الذي قطف من كل بستان زهرة، أو الذي إن سألته عن معلومة ما في أي تخصّص أو مجال وجدت الإجابة عنده أو طرفاً منها أو ما يشبهها على الأقل. وفي هذا تمجيد للذاكرة مع أنها على أهميتها أقل المَلَكَات العقلية البشرية مُقارنة بالقدرة على الفَهم والربط والإدراك والابتكار. وفي هذا أيضا سير عكس اتجاه الزمن، ففي أيام المكتبات الإلكترونية ومحرّكات البحث على الشبكة العنكبوتية التي تأتي بالمعلومات من كل مكان وبكل اللغات، يكون من العبث أن يجعل شخص همّه هو حفظ معلومات متناثرة، ليستعرض بها أمام الناس وليس امتلاك قدرة على بناء الحجّة وصناعة مسار برهنة متماسك وتكوين موقف من الذات والمجتمع والآخر والكون. والأميّة المنهجية ليست قرينة الأميّة الأبجدية في كل الأحوال، فهناك من الزرَّاع والصنَّاع والتجَّار البسطاء من رُزقت عقولهم بتفكير منطقي يعينهم على حل مشكلاتهم الحياتية البسيطة والمُعقّدة. وهناك من بين الدارسين والمتعلّمين مَن يتخبطون في عشوائية التفكير ويعانون من تشوّش الذهن، وتستعصي عليهم أدنى المشكلات التي تعترض طرقهم. ولهذا نجد فلاحاً ناجحاً في مهنته ومهمّته مع أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، بينما نجد باحثا أو أستاذا عاجزاً عن أداء ما هو منوط به على أي وجه صائب، لأنه يفتقد مَلكة التفكير المنهجي التي تعينه على فهم الأمور فهماً سليماً. والأميّة المنهجية لا تُمحى بتكثيف دراسة مناهج البحث، فهذا مجرد عامل مساعد، لكنها تختفي حين يتعلم الشخص كيف يستعمل أدوات التفكير العلمي في التعامل مع مشكلاته البحثية والحياتية، على حد سواء، منطلقاً من أن العلم يتّسم بالنسبية ويبدأ بالشك وينفر من الإطلاقية والوثوقية ويلهث دوماً وراء التحقّق من المعلومات، وهو أيضاً يتعامل مع المعرفة بوصفها ذات طابع تراكمي ويتسم بالموضوعية التي تخفّف من تأثير الذاتي أو تُحيده، وينزع إلى وضع كل شيء موضع المُساءلة. وتعلُّم هذا لا يكون فقط بعرض شروط التفكير العلمي وحفظها إنما بالتدرّب عليها والتفاعل الخلاّق بين أجيال الباحثين، والطموح الدائم إلى بلوغ آفاق جديدة بتجاوز السائد والمُتاح وفضح المسكوت عنه أو كشفه. والأميّة المنهجية لا تنتهي بين عشيّة وضُحاها، ولا يجب أن تشغل القائمين على العملية التعليمية حيال طلاب الدراسات العُليا فقط، بل إن الانتهاء منها هو عملية طويلة وشاقّة وصارِمة، تبدأ منذ التحاق التلميذ بالمدرسة وتكبُر معه كلما أوغل راحلاً في مدارج العلم ومراتبه، فإن وصل إلى المرحلة التي عليه أن يشتغل فيها بالبحث العلمي يكون قد تمكّن من أدواته، وبالتالي يُضيف باستمرار إلى ما هو قائم، ومن هنا تتحوّل الأطروحات العلمية إلى لَبنَات بعضها فوق بعض فيعلو البنيان، أو خطوات تتلاحق في اتجاه الهدف. والأميّة المنهجية لا يجب أن تُقابَل بكل هذه الاستهانة لحساب تعليم عابر يمدّ حياة العرب كل سنة بملايين الخريجين من الجامعات والمدارس الفنية من دون أن يضمن أن كل هؤلاء قد امتلكوا بعد سيرهم كل هذه السنين في مساقات مدرسية وجامعية، منهجاً يعينهم على تدبير أمورهم في العمل والبيت والشارع، إن اكتفوا بالدرجات التعليمية الأوليّة، ويمدّهم بكل أسباب النجاعة والنباهة والنجابة إنْ واصلوا دراساتهم العليا في مختلف التخصّصات والحقول العلمية.