إن الشيء الذي كان يفترض أن يمنع عودة القومية الخبيثة التي مزّقت القارة الأوروبية في ثلاثينيات القرن الماضي، أي الاتحاد الأوروبي، بات اليوم جزءا من الأسباب التي جعلتها تبدأ في فعل ذلك تحديداً. وهذا أمر مقلق في الدول الشيوعية سابقا، مثل المجر وبولندا وجمهورية التشيك، لكنه أمر يبعث على الشعور باليأس، وفقدان الأمل بشكل خاص في حالة الدول التي تستعمل اليورو.. وذلك لأن العملة الأوروبية الموحدة تمنع بعض بعض هذه الدول من النمو، وتمنعها جميعا (باستثناء ألمانيا ربما) من التحكم في مستقبلها الاقتصادي الخاص. وهذا يشكّل خليطاً ساماً، ويجعل الحياة السياسية تنتقل من كونها نقاشاً حول تدبير الشأن العام، وتحديد حجم الضرائب أو الإنفاق (من بين أمور أخرى) إلى نقاش حول من ينتمي إلى هذا البلد، ومن لا ينتمي إليه. ولا يمكن ليسار الوسط أن يأمل في التنافس تحت هذه الظروف، لأنه خسر أمام اليمين المتطرف في كل الساحات تقريباً. ولنأخذ إيطاليا كمثال، فحياتها السياسية كانت دائما مختلة بعض الشيء، ولعل خير تجسيد لذلك حقيقة أن حزبها اليميني الرئيس يقوده الملياردير سيلفيو برلسكوني، الذي يتحدث معارضوه عن فضائح جنسية ووجود ميل للفساد لديه. غير أن ذلك قد يبدو مشكلة هينة نسبياً، مقارنة مع الطريقة التي أخذ ينهار بها الوسط السياسي للبلاد مؤخرا. فقد انتقل الحزبان الرئيسان في إيطاليا من تمثيل 70 في المئة الأصوات في عام 2008 إلى 47 في المئة في 2013، واليوم 33 في المئة فقط في الانتخابات الأخيرة. وكان الحزب الديمقراطي من يسار الوسط، الذي يوجد في السلطة حتى الآن، من أكثر المتضررين، خاصة بالنظر إلى أنه لم يكن لديه أي منافسين كبار على اليسار. لكن حل محلهم شعبويون من مختلف الأشكال. فهناك «حركة الخمس نجوم»، وهي حزب احتجاجي غير ناضج أيديولوجيا أسسه ممثل يؤيد «دخلاً أساسياً عاماً»، ويرفض التلقيحات الإجبارية، ويعارض الهجرة بشكل فضفاض، وتراوده فكرة التخلي عن اليورو، ويزدري ما يعتبرها نخبة سياسية تسعى وراء المنفعة الذاتية. ثم هناك «رابطة الشمال»، وهو حزب شمالي انفصالي سابقا أعاد تشكيل نفسه كحزب مناهض للهجرة. وقد خفف من مواقفه المشككة في جدوى اليورو، لكنه يريد ضريبة ثابتة قدرها 15 في المئة، ويريد، مثلما بات مألوفاً بين أحزاب اليمين المتطرف اليوم، تمتين العلاقات مع روسيا. كما يريد إنهاء العقوبات على كوريا الشمالية التي قال سالفيني إن لديها «روحاً مجتمعية رائعة». وقد يعتقد المرء أن يسار الوسط سيرد على هذا الوضع بالدعوة إلى نوع من التحفيز الاقتصادي قصد إعطاء دفعة للاقتصاد، لكن ذلك لم يحدث.. فاليورو لن يسمح له بذلك أو بشكل أدق، البنك المركزي الأوروبي. والشيء المهم الذي ينبغي فهمه هنا هو أن هذا هو ما يبقي على تكاليف اقتراض البلاد منخفضة وبنوكها مستقرة، وذلك حتى يستطيع تحطيم الاقتصاد الإيطالي إذا ما حاولت حكومته تحدي قوانين العجز في منطقة اليورو. وهذا ليس تهديداً فارغاً. ذلك أن البنك المركزي الأوروبي، عموما، هو الذي نحّى برلسكوني عن السلطة في 2011، عبر ترك تكاليف الاقتراض ترتفع بالنسبة لإيطاليا، بعد أن تجاهل رسالته القوية التي توصي بتقليص الميزانية. وكل ما يستطيع يسار الوسط فعله، والحالة هذه، هو القول بأنه سيقوم بعملٍ أفضل في الدفع بتقليص الميزانية والإصلاحات القاسية التي تريدها أوروبا، غير أن التقشف بوجه إنساني لا يرقى إلى برنامج سياسي. وهذا يعني أن المشهد السياسي في منطقة اليورو عادة ما يكون على النحو الآتي: اليسار واليمين يتناوبان على تشويه سمعة بعضهم بعضاً عبر اتباع السياسات غير الشعبية التي تشترطها قوانين الاتحاد الأوروبي الخاصة بالميزانية. وبعد ذلك، يحظى حزب جديد من اليسار بفرصة في السلطة بعد أن يعد بتغيير الأشياء إلى الأحسن. إلا أنه لا يستطيع، ليس قبل أن يصبح مستعداً لإخراج البلاد من منطقة اليورو، وفي الأثناء، يتسبب في «أم الأزمات المالية». وهذه هي المرحلة التي يصبح فيها اليمين المتطرف تهديدا، حيث ينتقد بشدة إرغام الاتحاد الأوروبي لبلدانهم على استقبال لاجئين وعدم سماحه بإنفاقها أموالاً مماثلة على الإيطاليين أو الفرنسيين «الحقيقيين». وقد كان ذلك كافياً لمنحهم مراتب متقدمة في نتائج الانتخابات، ولكن ليس بما يكفي لتشكيل حكومة، وذلك لأن الأحزاب الأخرى تحالفت على منع وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، على غرار ما حدث في فرنسا العام الماضي. والواقع أن تقوية المعادين للأجانب لم تكن الهدف الذي كان يخطر بذهن الاتحاد الأوروبي عندما وضع هدف «اتحاد أكثر تقارباً» قبل 60 عاماً. ففكرة أوروبا كان من المفترض أن تعالج القومية، أو على الأقل تلطّفها، لا أن تسببها، ولكن الفكرة لن تنجح طالما جعلوا من المستحيل على اليسار تقديم رؤية بديلة لليمين المتطرف عدا تنفيذ ما تقوله بروكسيل بأكثر الطرق فعالية. مات أوبريان صحفي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»