ذهبتُ الأسبوع الماضي إلى هيوستن لمشاهدة «مسابقة رعاة البقر»، وهي مسابقة كبيرة تستمر 20 يوماً، وناهزت أعداد الحاضرين 185 ألف شخص في يوم واحد، من فئات مختلفة، بينهم المزارعون الريفيون وأسر من اللاتنيين ومهاجرين أفارقة، وزوجات من الضواحي جئن لقضاء ليلة في المدينة. وعندما تتوه في لجّة ذلك البحر من البشر، تتفكر أي شيء يجمع أفراد هذه الدولة ويجعلهم يتماسكون؟ وليس هناك سوى إجابة واحدة: فرغم اختلافاتنا، نكرس حياتنا جميعاً للتجربة ذاتها.. التجربة الأميركية التي تجذب الناس من جميع أنحاء العالم ليشكلوا أفضل مجتمع، مجتمع يمثل أنموذجاً للبشرية جمعاء. ولا يمكن أن تأتي الوحدة إلا من الإخلاص المشترك لتلك التجربة، ولا يمكن للوعي الأميركي أن يتشكل إلا عبر التقارير المفصلة التي يقدمها كل واحد منا للآخر بشأن تلك التجربة، من خطابات وأغان ومحادثات، وحتى نوبات غضب تصف ما تمثله تلك التجربة ومواطن إخفاقها وكيف يمكن أن تمضي قدماً. ومن أحب تلك التقارير المفصلة إليّ مقال للشاعر الأميركي «والت وايتمان» بعنوان: «مشاهد ديمقراطية»، المنشور في عام 1871، وفيه: «إن الهدف من الديمقراطية ليس الثروة، ولا حتى المساواة، وإنما الازدهار الكامل للأفراد. وبتوزيع المسؤولية على الراشدين كافة، ترفد الديمقراطية المجتمع بمدرسة تدريبية لإنتاج مواطنين من الطراز الأول». ثم يضيف: «إن الديمقراطية صالة التدريب على الحياة، ومنها يخرج محترفو الحرية، رجالاً ونساء أقوياء ومتساوين وشجعان.. أناساً مخلصين قادرين على حكم أنفسهم». وكان «وايتمان» يأمل أن تضع الحرب الأهلية أوزارها وبعد اغتيال «لينكولن»، وأن تجتمع الدولة وتلتئم، لكن حدث فساد وانقسام وتراجع في الأخلاق وغياب للمساواة. وبالنسبة له كان أكبر أعداء أميركا هو النظام الإقطاعي، أو الطبقية الأوروبية التي ثار الأميركيون عليها، وظلت عودتها تهديداً دائماً يطلّ برأسه. وكان «وايتمان» يخشى من الإقطاعية الاقتصادية والاجتماعية، لكنه مقت قبل كل شيء الإقطاعية الثقافية والأخلاقية. وتصور أن الكتاب والفنانين والموسيقيين والشعراء والمبشرين بمثابة مشرعين حقيقيين للبشرية، لكنهم في أميركا انسلخوا من تفاصيل التجربة الأميركية، وظلوا متشبثين بأوروبا، بحثاً عن نماذج شخصياتهم وسلوكياتهم وتعليمهم، وازدروا جموع الديمقراطية في أميركا. واعتقد أن ذلك ترك فراغاً روحياً. ورغم أن أميركا وضعت دستوراً سياسياً لامعاً، حشد ثروة خفية، إلا أنه لم يستحدث ثقافة ديمقراطية تسلط الضوء على الحياة اليومية للأميركيين، وتحتفي بها وتعظمها. ومشكلة البشرية في أنحاء العالم المتمدن مشكلة اجتماعية ودينية، من وجهة نظر «ويتمان» الذي تصور أن الأدب سيعالجها في نهاية المطاف. ولم يكن «ويتمان» متشائماً، فقد عمل ممرضاً أثناء الحرب الأهلية، وشاهد الناس يتعافون ويموتون، ومنحته تلك التجربة إيماناً كبيراً بوجود الخير لدى المواطنين العاديين، مؤكداً أن الجنود الأميركيين أظهروا عظمة وإخلاصاً أكثر من جميع الأبطال الذين تحدثت عنهم الكتب، إذ لم يموتوا من أجل المجد، ولا من أجل مقاومة الغزو، بل بدافع عظمة الانخراط في التجربة الأميركية. ------------------------- *كاتب أميركي --------------------- يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»