في شهر مايو من عام 1968 كان على رأس الدولة الفرنسية أحد أهم قادتها في القرن العشرين الجنرال شارل ديجول بطل تحرير فرنسا من النازية ومن الاحتلال الألماني، وبطل تحريرها من عقدة الاحتلال الاستيطاني للجزائر. وبفضل ذلك تحوّل ديجول إلى رمز وطني يحمل اسمه اليوم أحد أهم شوارع العاصمة باريس، إضافة إلى مطارها الدولي الكبير. غير أن كل تلك الهالة من العظمة الوطنية وقفت عاجزة أمام حركة طلابية احتجاجية، انطلقت من جامعة السوربون، لتحمل الرئيس الكبير نفسه على الاستقالة، ولتنقل فرنسا كلها إلى مرحلة جديدة لا تزال آثارها مستمرة حتى اليوم. ولأول مرة منذ وقوع هذا الحدث الذي قلب المجتمع الفرنسي رأساً على عقب وغيّر الكثير من المجتمعات الأوروبية الأخرى، يقف على رأس الدولة اليوم رئيس ولد بعد عام 1968، وتحديداً في عام 1977 هو الرئيس إيمانويل ماكرون. لم تكن حركة –او انتفاضة- 1968 حركة ثورية. كانت حركة "ربيعية" بدأت كردّ فعل احتجاجي على نظام التعليم. ولكن سرعان ما انضمّ اليها في الأسبوع الثالث عمال المصانع احتجاجاً على نظام العمل.. ثم عمال النقل العام احتجاجاً على أجورهم المنخفضة، مما أدى إلى شلل الحياة العامة. فقد ارتفع عدد المضربين والمتظاهرين إلى حوالي 11 مليون فرنسي فتوقفت حركة النقل العام، واقفلت المدارس والجامعات والمصانع، وأصيبت مفاصل الدولة بالشلل. وأمام التوسع في الاحتجاجات، بدت الحكومة الفرنسية عاجزة عن التصرف. حتى اضطر ديجول نفسه إلى مغادرة البلاد دون إعلان رسمي.. وحتى دون أن يعرف أحد إلى أين غادر. ولما عاد إلى باريس كان أول عمل قام به، مبادرته إلى حل الجمعية العامة (البرلمان) والدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة. كان ديجول واثقاً من نفسه. وكان يراهن على أمرين: رصيده الوطني، وسخط الرأي العام الفرنسي أمام مشاهد الخراب والدمار التي حلت بالعاصمة باريس من جراء حركة الاحتجاج. ولكنه خسر الرهان. وخسر بذلك آخر وأهم معاركه من أجل «فرنسا العظمى». فخسر الانتخابات، واضطر إلى الانكفاء في قريته في غرب فرنسا. وبقي هناك رافضاً لقاء أي شخصية عامة أو إجراء أي مقابلة صحفية، حتى وافاه الأجل. وبالفعل تم تغيير نظام التعليم في فرنسا. أصبح الطالب الجامعي يناقش بحرية. ولم يعد يكتفي بالتلقي. وتغيرت قوانين العمل في المصانع والشركات والمؤسسات العامة. وانتقلت هذه المتغيرات إلى الدول الأوروبية الأخرى.. وإلى العالم. غير ان أهم ما حفرته تلك الحركة الطلابية العفوية في الشخصية الأوروبية –وليس الفرنسية فقط- هو احترام التعدد والاختلاف وتحديد احترام حقوق الأقليات في المجتمع الواحد. حتى أن شعار «كلنا أقليات» يعتبر من الموروثات الإيجابية للحركة الطلابية الفرنسية. لم تصل هذه الشعارات إلى دول أوروبا الشرقية التي كانت تعيش خلف ما كان يسمى بالستار الحديدي. كانت شعوب تلك الدول تخضع قسراً لنظام قمعي يلغي الشخصية الوطنية، ويحاول تذويبها في منظومة أممية إلغائية للذاتية الدينية والوطنية. ولعل هذا ما يفسر اليوم التطرف الشعبوي الرافض للآخر المختلف في هذه الدول، وخاصة في المجر وتشيكيا وبولندة. فالحركات السياسية في هذه الدول ترفع لواء «الدولة الأمة» ذات العنصر الواحد، والدين الواحد. وتحارب التعدد العنصري والديني. وهو ما انعكس سلباً على مواقف هذه الدول من المهاجرين عامة، ومن المسلمين منهم بشكل خاص. أما الحركات السياسية في دول أوروبا الغربية فإنها على العكس من ذلك، ترفع لواء حقوق الإنسان وتدافع عن التعدد والتنوع. رغم وجود أصوات شاذة، حتى في فرنسا ذاتها، ولكنها أصوات مرذولة من أكثرية الناس، كما أثبتت نتائج الانتخابات التي جرت في العام الماضي في كل من فرنسا وهولندا، وحتى في ألمانيا. ويعود الفضل في ذلك إلى الروح الانفتاحية التي أطلقتها الحركة الطلابية الفرنسية قبل خمسين عاماً. *كاتب لبناني