في الإمارات أعيد مؤخراً تأسيس مجلس الإفتاء الشرعي برئاسة العلامة الشيخ عبد الله بن بيه الذي هو أحد أهم أعلام وأئمة الشرع والدين في عالمنا الإسلامي وصاحب نظرية رصينة جديدة في صناعة الفتوى (عنوان أحد كتبه الأساسية). ما أرادته حكومة الإمارات هو بوضوح وضع إطار تنظيمي دقيق وفعال لممارسة الإفتاء التي تعاني في الساحة الإسلامية عموماً من فوضى عارمة، وتشكل بؤرة لعمل الجماعات المتطرفة والراديكالية العنيفة. ورغم أنه لجل البلدان الإسلامية هيئاتها الإفتائية، كما أن عدة مجامع إسلامية قد أسست لتنسيق الفتوى في بلدان العالم الإسلامي بمراعاة الاختلاف المذهبي القائم فيها، فإن الفتوى لا تزال مدار تضارب وتلاعب كبيرين ولم تعد الهيئات الرسمية في غالب الأحيان قادرة على ضبط المواقف والاستشارات الشرعية، خصوصاً بعد انتشار ظاهرة الفتوى الفضائية والإلكترونية. ومن هنا أهمية الخطوة الإماراتية لتشكيل مجلس وطني للفتوى يجمع بين شروط الكفاءة العلمية والسلطة المرجعية التي تعني قبول الفقيه واعتماد أقواله من لدن القطاع العريض من المجتمع، مع مد هذه السلطة الرمزية بالإلزامية التنفيذية التي أصبحت ضرورة في عصرنا. لقد طرحت الفتوى للدولة في المجتمعات المسلمة الحديثة عدة إشكالات مؤسسية وتنظيمية نابعة من اعتبارين أساسيين: أولهما: أن سلطة الفقيه ليست مقننة في التقليد السني (خلافاً للطوائف الأخرى) بل هي من تعبيرات حيوية وفاعلية المجتمع الأهلي، ما نتج عنه إيجاباً غياب سلطة كهنوتية ضاغطة ومغلقة تحتكر تأويل الدين وضبط أحكامه وشرائعه، ونتج عنه سلباً تحول الحقل الديني إلى بؤرة أساسية للانشقاق والتصدع والفتنة، لغياب مؤسسة تختص بتقنين أحكام الشرع وتنزيلها في الواقع. صحيح أن التقليد السني استطاع عبر الحركية التاريخية وضع نظم مؤسسية تحد من هذا المأزق التأويلي، أهمها الصياغات المذهبية الضابطة للحقل الفقهي، ومنها أيضاً المنهج الأصولي الذي وضع معايير وأدوات استثمار الدلالات المعيارية الشرعية من النص وفق محددين أساسيين؛ هما تحديد المدونة النصية المرجعية وشروط وآليات تأويلها من جهة، وتحديد السلطة المرجعية الملزمة في الأحكام الشرعية وفي الإفتاء من جهة أخرى (مبدأ الإجماع). ثانيهما: ما انجر عن تبدل النظم الإسلامية مع انبثاق الدولة الوطنية الحديثة في مجالين محوريين هما ازدواجية المدونة التشريعية بين أحكام الدين والأنساق القانونية المستمدة من التجارب الحداثية الوافدة، وازدواجية السلطة الدينية الرسمية التي هي من آثار الوظيفة الشمولية الكلية للدولة السيادية المتحكمة في كل مكونات الفضاء العمومي بما فيها المكون الديني والسلطة الدينية الأهلية المستندة لتقاليد محلية تاريخية ونظم مجتمعية حية. ما حدث في السنوات الأخيرة هو أن هذه الازدواجية المضاعفة قد انضاف إليها عامل جديد خطير هو بروز «الإسلام الراديكالي» الذي يكرس القطيعة مع التقليد الفقهي نفسه باسم الاجتهاد والتجديد، فيما يتمرد على الشرعية المؤسسية للدولة وعلى النظم الأهلية معاً، بما ينجر عنه شلل المنظومة السنية. وكان الشيخ بن بيه قد نبّه في دراسات رائدة حول التجديد الأصولي والفقهي إلى أن ضبط الفتوى اليوم أصبح ضرورة قصوى لانتشال الدين من تلبيس الملبسين وتحريف المحرفين، وأشار بوضوح إلى أن الدفاع عن المنظومة السنية يقتضي الانتقال إلى بناء فلسفة فقه تكون اللبنة المعاصرة للجهد الذي اضطلع به علماء الأمة في وضع الأدوات والمفاهيم الشرعية من خلال علم أصول الفقه نفسه، الذي هو الإطار المنهجي للإفتاء الذي يجمع بين معايير الحكم الشرعي الثابت وضوابط وشروط الإجراء المعياري العملي (جدلية خطاب التكليف وخطاب الوضع). ما نعنيه بفلسفة الفقه ليس استبدال منظومة فقهية بأخرى، بل صياغة المفاهيم والمعايير الفقهية بلغة معاصرة تحافظ على محددات المنهج التأويلي الأصولي وتقاليد المذاهب الفقهية في حيويتها، إذ الغرض هو تجاوز الازدواجيات المعيارية والمؤسسية المعيقة لعمل الإفتاء ونقل مفهوم الإفتاء نفسه من منزلة الاستشارة الحرة غير الملزمة إلى الموقف الفقهي الجماعي الصادر عن سلطة تنفيذية مستقلة ينعقد حولها الإجماع ويفرض لها الانقياد صوناً للدين ولتماسك المجتمع وسلامته.