التشابه والتطابق قد يخيل للبعض أنهما مرادفان لدلالة واحدة، ولكنهما رمزان لدلالتين مختلفتين فالتشابه هو تماثل في بعض الصفات لذاتين مختلفتين. أما التطابق فهو التماثل التام بين ذاتين هم في الحقيقة صورتان لذات واحدة هذا من منظوري الخاص. في المنظور الفكري التطابق ينفي صفة الاختلاف ما بين الذاتين المتطابقتين، ويظل بعداً ذا وجه واحد. أما التشابه فإنه يحمل بين أنامله الاختلاف، فيحدث التناغم والتفاعل الذي قد يؤدي إلى خلق جيل جديد من الصفات، أي يحدث حالة تلاقح تؤدي لمنتج فكري جديد، لذلك التشابه يخلق الحيوية والإنتاج وإعادة بلورة الأفكار، ويؤسس للإبداع، ويبقى التشابه والاختلاف وجهان لعملة واحدة.
قال هيراقليطس (أنك لا تنزل للنهر الواحد مرتين) فالنهر يجري و يتغير الماء والإنسان نفسه يتغير، فكل لحظة تمر عليك تتبدل فيك ماديات أو أفكار، وتنمو خبراتك عن اللحظات التي تسبق هذه اللحظة الآنية.. بالتالي فالاختلاف هو القيمة الأساسية في الحياة، وأنت لست أنت كما كنت منذ لحظات لندرك أن الاختلاف والتشابه قيم متغيرة في حين أن التطابق قيمة وهمية.
نسير معاً نحو أهم قيمة في الوجود التي تسمح لنا بالتعايش في سلام مع العالم، وهي قيمة إنسانية خالصة لا تخص ثقافة واحدة، بل تخص الإنسانية جميعها، وقبول الآخر بما تحتويه هذه القيمة الجامعة من مجموعة قيم أخرى تنبع من بئرها الذي لا ينضب، ومنها التسامح والتعايش والمحبة، وقيم أخرى قد تولد مع تزايد الخبرات البشرية وانفتاح العقل، وإعادة استكشاف التجارب الإنسانية وبلورة مضامينها القيمية المختلفة التي تولد.
وحين ننظر لخريطة العقول والثقافات التي تحيط بنا، نجد أن هناك عقولاً منغلقة تحاول أن تلغي وجود الآخر ولا ترى فيه إلا الضد الذي يجب أن يختفي، ومن هنا ولدت أكبر آفة في عصرنا الحديث، والتي صنعت التطرف وجعلت بعض العقول المنغلقة تدور في فلك التطابق الوهمي، ومن يخرج من تلك الدائرة فهو خارج عن الجماعة المصطفاة. تلك الجماعات المنغلقة على نفسها والمنكفئة على ثقافتها، والتي تحوط عليها خشية الاختلاط بالثقافات الأخرى وكأن الثقافات الأخرى فيروس سيصيب ثقافتهم بالموت دون أن يدركوا أن سنة الحياة هي التعاطي الفكري بين الثقافات والحضارات المختلفة، فكلنا شركاء في الإنسانية، نعيش على نفس الأرض وتحت نفس السماء، تختلف أفكارنا أحياناً وتتشابه أحياناً أخرى. كل الحضارات التي حاولت القيام على فكرة الانغلاق وعظمت من فكرة التكرار المتطابق بين أفرادها لم يكتب لها النجاح إلا حين بدأت تدرك قيمة الانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى والحوار الفكري بين مختلف الرؤى والقيم الثقافية والمجتمعية والحضارية، نحن جميعاً شركاء في الإنسانية وهي الحضارة الأعم والأشمل.
لابد أن نعايش الاختلاف ونلاقح المتشابهات لنصنع إبداعاً يخدم الجميع، لنصل لحياة أفضل، وتأتي البداية بأن نقبل اختلافنا الذاتي داخل ذاتنا الفردية، فأنت لست أنت الذي كنت عليه منذ سنوات لابد أن ندرك ونقبل هذا الاختلاف ونتخلص من عقدة الحنين لما كنا عليه والحزن على الماضي فتقبل تحولاتك الفكرية والسلوكية والمعرفية، فهي دائماً محصلة لقيم مضافة لخبراتك الفردية.. ومن هنا نتعلم كيف يمكن أن نقبل الآخر ونحيا معاً دون إخلال بمواريث ثقافية تميز حضارتنا، ودون تقليل من مواريث ثقافية تميز الحضارات الأخرى، فجميعنا نتعايش معاً ونحيا معاً لنصل معاً إلى الحضارة الأعم والأشمل وهي الإنسانية.. فسلام عليك أيتها الإنسانية.