بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، صُنع حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة ليكون القاعدة الجديدة التي يقوم عليها النظام العالمي الجديد. قام في مواجهته حلف وارسو بقيادة الكرملين، إلا أنه سقط مع سقوط الاتحاد السوفييتي. ويبدو أن الحلف الأطلسي يواجه الآن المصير ذاته على يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب. لقد وجدت دول الحلف نفسها وعددها 29 دولة أمام واقع جديد يتمثل في ما إذا كانت قادرة على الاحتفاظ بالحلف بشروط دونالد ترامب أو من دونه. فالخلافات بين الدول الأعضاء مع الولايات المتحدة وصلت نقطة اللارجوع. يقول الرئيس الفرنسي «ماكرون» إنه لا مشكلة في أن تحول مجموعة الدول السبع الكبرى إلى مجموعة الدول الست. مشيراً بشكل مباشر وجريء إلى أن التحالف سيستمر مع الولايات المتحدة أو من دونها. والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تقول إن على الدول الأوروبية أن تعالج أمورها بنفسها. مشيرة بشكل مباشر وجريء أيضاً إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يثق بتحالفه مع واشنطن. عندما بادر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى فصل شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا وضمّها إلى الاتحاد السوفييتي، قررت مجموعة الدول الكبرى في العالم، بما فيها الولايات المتحدة، معاقبة موسكو وإخراجها من مجموعة الدول السبع إلى أن تعيد النظر في موقفها. رفضت موسكو إعادة النظر وتمسكت بموقفها، وجسّدت ذلك ببناء جسر يربط روسيا بالقرم، وقام بوتين نفسه بتدشينه. مع ذلك فاجأ الرئيس الأميركي ترامب حلفاءه بدعوته إلى إعادة ضم الاتحاد الروسي إلى مجموعة الدول السبع الكبرى، مؤكداً على أن ذلك سيكون في مصلحة السلام العالمي.
لم يقف الرئيس بوتين عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى توجيه ضربات موجعة إلى الحلف الأطلسي الذي تقوده بلاده منذ عام 1945. وقد رفع شعاراً مهيناً لحلفائه في الحلف يقول فيه إن الولايات المتحدة ليست جمعية خيرية تنفق المليارات من الدولارات للدفاع عن دول لا تنفق من أجل الدفاع عن نفسها سوى النذر القليل.. بل وتذهب إلى أبعد من ذلك فتبتز الاقتصاد الأميركي وتنهكه. قد يكون الرئيس ترامب على حق في القضية الأولى. ذلك أن الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي وافقت بالإجماع في عام 2014 على أن تخصص كل دولة نسبة 2 بالمائة من دخلها القومي للإنفاق على التسلح لمواجهة المخاطر الروسية. غير أن ثماني دول فقط من أصل 29 دولة، التزمت بالقرار. إلا أن الرئيس ترامب ذهب بعيداً جداً متجاوزاً الواقع في إدانة دول الحلف حتى إنه أعلن أن الولايات المتحدة تتحمل وحدها 90 بالمائة من الموازنة العسكرية للحلف. غير أن الواقع ليس كذلك، فالأرقام الرسمية تؤكد أن الولايات المتحدة تتحمل فقط 22 بالمائة من الموازنة العسكرية للحلف. أما قضية الابتزاز فأمر آخر. لقد أعلن الرئيس ترامب نوعاً من الحرب الاقتصادية على حلفائه الأقربين (كندا والمكسيك) حتى أنه وصف الرئيس الكندي ترودو بالكذب والخيانة، في الوقت الذي أشاد بالرئيس بوتين وبمزاياه القيادية. وشملت الحرب الاقتصادية حلفاء الولايات المتحدة الأبعدين من الدول الأوروبية، وذلك بفرض ضرائب جديدة على بعض المواد التي تستوردها بلاده منها (الحديد، الالومنيوم مثلاً)، فردّت هذه الدول بفرض ضرائب معاكسة على مستورداتها من الولايات المتحدة. ويقدر حجم الحرب التجارية للرئيس ترامب بترليون دولار، حسب ما أوردته صحيفة الفاينانشال تايمز.
من هنا السؤال: كيف يمكن أن يستمر حلف شمال الأطلسي بين دول تشنّ حرباً اقتصادية ضد بعضها؟ بل كيف يمكن أن يحافظ الحلف على صدقيته في الوقت الذي ينسحب فيه الرئيس الأميركي من قمة الدول الست الكبرى في كندا، ويوفد مستشاره للأمن القومي (جون بولتن) إلى موسكو لفتح صفحة جديدة مع الكرملين من وراء ظهر «حلفائه» التقليديين في أوروبا؟ تشكل المادة الخامسة من معاهدة الحلف الأطلسي العمود الفقري للحلف سياسياً وعسكرياً. تنص هذه المادة على أن أي عدوان، أو أي خطر يتهدد أي دولة من دوله، يعتبر بمثابة عدوان أو تهديد لدول الحلف كلها. غير أن الولايات المتحدة برئاسة الرئيس ترامب ترفض الآن التأكيد على أنها لا تزال ملتزمة بنص هذه المادة. وقد جاء ذلك في شهر سبتمبر من العام الماضي أثناء إحياء ذكرى جريمة 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. من هنا ترتفع علامة الاستفهام الكبيرة: إذا سقطت المادة الخامسة، ماذا يبقى من حلف الأطلسي سوى الخلافات الأطلسية؟!
ليست مصادفة أن يتقارب اجتماع ترامب – بوتين في هلنسكي مع انعقاد قمة حلف الأطلسي. فموقف ترامب السلبي من الحلف يشجع بوتين على مزيد من الانفتاح عليه والتجاوب معه. فإذا رفعت الولايات المتحدة العقوبات عن موسكو وأنهت المقاطعة، فان الموقف الأوروبي يفقد فعاليته وقوة تأثيره، بل إن العقوبات الأوروبية تتحول إلى عقوبات عكسية، لأن دول أوروبا الغربية والشرقية معاً تعتمد إلى حد كبير على النفط والغاز الروسيين! من هنا علامة الاستفهام الكبيرة: إذا تهاوى حلف الأطلسي، فأي قاعدة يمكن أن يقوم عليها النظام العالمي الجديد؟.