ما الذي جعل امرأة عاشت قبل 44 قرناً في ما يُسمى الآن العراق تصبح موضوع أطروحات أكاديمية، وكتب، ودواوين شعر، وجمعيات.. هل لأنها أول شاعر وكاتب في التاريخ يُذكر اسمه، وهل لأنها وضعت قبل ألفي عام من الفيلسوف أرسطو تعاليم تربوية للفرد والمجتمع، أو لأنها «شكسبير الأدب السومري» حسب مؤرخي الأدب العالمي، أو لأن سيرتها الذاتية صارت أناشيد وتراتيل دينية، أو لخلود صورتها الشخصية المنحوتة على قرص طيني، يذكر اسمها ونسبها: «إنهدوانا ابنة سرجون، ملك الجميع»؟
يتكون اسمها «إنهدوانا» من ثلاثة مقاطع «إنْ» يرمز إلى «الكاهنة الكبرى»، و«هيدو» يعني «زينة»، و«آنا» السماء، ويحاكي اسمها المركب جمال القمر. أبوها «سرجون الأكدي»، مؤسس أول إمبراطورية في التاريخ وحدّت دويلات وأقواماً مختلفين ديناً ولغة وثقافة، وسوّت بين إلهة السومريين «إنانا»، وإلهة الأكديين «عشتار»، وكانت تلك خطوة أساسية لتوحيد «بلاد ما بين النهرين». وعهد«سرجون» لابنته «إنهدوانا» المهمة الشاقة للجمع بين أتباع الإلهتين فكرياً واجتماعياً وسياسياً. ويمكن تصور خطورة ما أقدمت عليه إذا فكرنا بامرأة تجرؤ اليوم على الجمع بين الأديان والمذاهب والثقافات في العراق. وكان أشق ما عانته «إنهدوانا» ولاؤها لمعبودتها «إنانا» وقد كرّست حياتها لترفعها إلى مصاف كبار الآلهة، والآن عليها التخلي عنها لتوحيد البلد تحت راية «عشتار». تخاطب «إنانا» في إحدى قصائدها «أستعطفك. أقول لكِ كُفّى هذا القلب الحقود المرير والحزين. يا سيدتي، في أي يوم ستساورك الرحمة، وكم سيطول عويل صلواتي النائحة. أنا لكِ فلماذا تذبحينني؟».
وقد يدرك بقلبه العذاب والمهانة في هذه الصرخة من تابع أهوال تعرضت لها عوائل وقعت عليها مسؤولية السلطة في العراق عبر القرون. ونصيب «إنهدوانا» من هذه الأهوال النفي والتعذيب والاغتصاب، وهي الأميرة الشاعرة، والمفكرة الروحية، التي «توجد ما بين البركة واللعنة، الضوء والظلام، الوفرة والادقاع، الخير والشر، الحياة والموت. ومهما بلغت قسوة واقعها فإنه الواقع الذي ينبغي على كل كائن حيٍّ مواجهته». ذكرت ذلك الباحثة والشاعرة الأميركية «جودي غران» التي تعتبر ظهور الترجمة الإنجليزية لقصائد «إنهدوانا» في ثمانينيات القرن الماضي حدثاً مدوياً: «فنحن نصارع قوة الانفعالات التي تتلف علاقاتنا، وقوة الطبيعة التي تدمرنا، ونصارع العنف الداخلي والخارجي، ونكافح لأجل البقاء بعد أن فقدنا جدارتنا، وأن نؤمن بشيء. وهذه كانت بعض المسائل التي تشغل إنهدوانا أيضاً». وكما تتوقع الشاعرة الأميركية، في حال استمرار «التقهقر إلى الخلف نحو المستقبل»، فإن قصة هذا القرن سيرويها بدرجة كبيرة أدب «بلاد ما بين النهرين»، وأساطير «إنانا» بالذات.
«إنهدوانا» عيد المرأة الخالدة، أَسَرت قلوب الباحثات الغربيات بأشعار تتضمن إطراءً محبباً لأكثر المواضع الأنثوية حميمية. و«الآن يحطم صوت إنهدوانا الصمت الذي أحاط المرأة في الثقافات والعقائد الدينية السائدة في الغرب». تقول ذلك «بتي دي شونغ»، الطبيبة النفسانية والباحثة في «جامعة بركلي» في كتاب ضّم مجموعة قصائد «إنهدوانا» وعنوانه «إنانا سيدة أكبر قلب». وتصف «دي شونغ» الأبعاد الكاملة للأنوثة في أشعار «إنهدوانا» التي «تشرع النساء الآن في استخدامها لإعادة بناء ماض ثقافي كان وضع المرأة فيه مختلفاً بشكل هائل عمّا هو عليه الآن».

*مستشار في العلوم والتكنولوجيا