ما زالت شهادات التأبين تتوالى عقب رحيل السيناتور جون ماكين السبت الماضي، ليس في الولايات المتحدة فحسب، وإنما عبر أوروبا الشرقية أيضاً، في أوكرانيا وفي جورجيا وغيرهما. ولكن ليس في روسيا حيث تصوّره شخصيات النظام كعدو حتى في وفاته. غير أن وضوح موقف ماكين من روسيا سيفتقده الجميع، بمن في ذلك مروجو بروباغندا الكريملن.
والواقع أنه يمكن تفهم الشعور وراء كل من ردي الفعل الأوروبي الشرقي والروسي على وفاة ماكين. ذلك أنه في كل المسائل الإقليمية، دعم ماكين دائماً البلدان والسياسيين الذين حاولوا الخروج من فلك روسيا وكان من أشد المنتقدين لبوتين وحلفائه. كان ينحاز إلى قضية على نحو يمكن توقعه وبصدق وإخلاص. ولم يكن ثمة تحفظ في مواقفه ولا في قناعته الراسخة بأن روسيا، التي هُزمت في الحرب الباردة أمام صرامة الرئيس رونالد ريجان وتحولت إلى «محطة وقود متنكرة على شكل بلد»، تستحق أن تواصل الخسارة كدولة استبدادية تسعى للانتقام.
وقد كان دائماً بوسع السياسيين الذين يسعون للنأي ببلدانهم عن تاريخ من الاعتماد على روسيا التعويل على دعم ماكين. فهو لم يخذلهم أبداً، رغم أن إدارتي جورج دبليو. بوش وباراك أوباما لم تضاهيا حماسه أبداً. والحق أن مثل هذا الاعتماد نادر في السياسة. ولكن ما فعلته في موسكو هو أنها غذّت نوعاً خاصاً من الارتباك المفيد، ذلك أن نظام بوتين كان في حاجة لعدو خارجي، وقد كانت الولايات المتحدة عدواً تقليدياً، ولم يكن الأمر يتطلب جهود بروباغاندا قوية لتصوير ماكين باعتباره نموذجاً للموقف الأميركي الحقيقي تجاه روسيا. وفي هذا السياق، كتب المشرّع الروسي «أولغ موروزوف» في تدوينة على «فيسبوك» يوم السبت: «لقد علّمنا على نحو أفضل أن نفهم أنفسنا وأميركا».
وأضاف يقول: إن أهم ما فعله ماكين عموماً هو القول إن روسيا غير قابلة للتصحيح. فمهما كانت رغبتنا في أن نكون محل إعجاب، ومهما خضعنا للغرب وتعهدنا بالإخلاص له، مثلما فعلنا طيلة التسعينيات، فإنا لا يمكن أبداً أن نكون جيدين. إننا أعداء للأبد. هذا هو منطق ماكين، وهو جيد في شفافيته وثباته.
ولكن مشكلة الثبات هو أنه يتجاهل الحقائق المرة. ذلك أنه إذا كان ماكين قد جسّد كراهية أميركا لنخبة بوتين، فإنه جعل بوتين في حالة يقظة وتأهب وحريصاً دائماً على تحصين نظامه من الانقلابات. وفي الأثناء، ارتكب ماكين أخطاء ساعدت بوتين على تسجيل نقاط بروباغندا، بل وخوض حرب قصيرة ورابحة، ذات مرة.
بيد أن إحاطة ماكين عموماً بتفاصيل السياسة الروسية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي وديناميات القوة ربما أضعفت خصوم بوتين في روسيا. ففي 2011، بعث ماكين تغريدة على تويتر جاء فيها: «عزيزي فلاد» (تصغير لفلاديمير)، إن الربيع العربي قادم إلى حي قريب منكم» – وهو بكل تأكيد دعم من النوع الذي لا يحتاجه المحتجون الروس على تزوير الانتخابات البرلمانية. وبالنسبة لبوتين، كان هذا دليلاً على أن المعارضة السياسية الروسية لا تلقى التحريض من الولايات المتحدة فحسب، وإنما الدعم المباشر سعياً منها إلى الإطاحة به. اعتقادٌ شكّل ملامحَ ولاية بوتين الرئاسية الثالثة، التي بدأت في 2012 وانتهت هذه السنة: فقد سحق الكريملن المعارضة ووسائل الإعلام الروسية الليبرالية، موحداً كتلته الناخبة حول فكرة حرب دائمة ضد الهيمنة الأميركية والتوغلات الأميركية. وكانت عمليات القرصنة الإلكترونية الروسية خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016 جزءاً من هذه السياسة.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»