في الحديث عن الحياة، كما البوح في الشعر، فلابد أن تكون رؤيتنا أكثر شعرية في الحياة، لأننا كلما غصنا في الحياة، كانت لغتنا أكثر شعرية، كلما كانت حياتنا فضاء يمتلئ بالحب، كان الحب أكثر صفاء، وأبعد عن المنطق وأقرب إلى الحياة.
الحياة ليست مسألة منطقية، بل هي أكثر عفوية ووضوحاً واستثنائية وفطرية وغريزية.
الحياة واضحة، نحن الذين نحثوها بالغبار لتصبح غامضة وبلا معنى، لأننا نخاف من الوضوح ونخشى الاقتراب منه، لأنه يكشف خدعنا البصرية، ويسفر عن حيلنا الدفاعية، ونحن نسير إلى مآربنا التي لا تلتقي مع الحياة، وفي الحياة كل شيء جميل وواضح، وكل شيء مميز.
الوردة في الحقل لا تخبئ عطرها، بل تبثه عبر الأثير لتعبق به الوجود، والفراشة لا تختفي عن الأعين وهي تبحث عن الرحيق، بل تظل ترفرف، لعل الآخر يرى هذه الأجنحة الملونة بالبراءة، تلفت نظر السارين، ويتخلون عن نسيانهم المزمن لكل ما هو جميل، وحتى الطير فوق الأغصان السامقة يعانق بعضه في غزل رفيع لا يشبهه شيء عند الإنسان، ويحلق ويرفع النشيد عالياً، لعل الآخر يغني معه ويهجر عدائيته للطبيعة.
الحياة كتبت قصيدتها منذ أمد، لعل الإنسان يدوزن الأبيات، ويتحرر من الحروب والطغيان والتمرد والتطرف والتعنت والتزمت، فلا شيء في الطبيعة يدعو إلى الغضب، ولكن الإنسان وحده يستمر في الغضب والاستنكار والإدانة والمقارنة والتملك والطمع والشبق. هذه خصال ابتدعها الإنسان، وظلت ملازمة له إلى يومنا هذا، وقد حاول إخفاء هذه الخصال بوسائله الخاصة، لكنه فشل لأنه ساذج، وكلما ازداد نفوراً من حقيقة الحياة، ازداد لغطاً، وازدادت عتمة وعيه، فاستمر في التيه والضياع، وتضاعف جهده في التعتيم والتظليم.
يفكر الإنسان في الخلاص من مأساته الوجودية، فلا يجد غير الهروب من الحياة، وكلما ازدادت رغبته في الهروب، تضخمت الوعورة أمامه، وكلما شعر بالقنوط، توقفت حركته عن فهم الحياة.
تصبح الحياة بلا معنى، عندما يصبح الإنسان بلا حركة، فالحياة رحلة طويلة كما تذكر (ألغيتا)، وعندما نتحرك نصل، وعندما نتوقف نخل بديمومة الطبيعة وغريزتها.