هو سفر في الداخل وفي النفس، وسفر في الخارج وفي الآخرين، فنحن نسافر.. ونحن نجرّ الطفولة تلك المرايا الجوانية، هي بعض من أجنحة المسافر وحيداً وبعيداً وعميقاً، يتبع ظل الإنسان، ظله هو الآخر، هنا.. وهناك، نعم.. يكفي إن باغت مطر طرقات المدينة القديمة، وجدت من يغنيه ليلاً، وكأنه لك، وكأنه عليك، حينما تضل عجوز مغاربية دربها، وتبقى تتلفت في محطات باريس التي لا تعرف الشفقة، حتى يرهقها الدوار، فتجد يداً لا تعرفها تعضدها، تلك لحظة الظل، ولحظات سعادة النفس، حين يدق الفقر عظام شاعر، تخرج الـ «آه» منك أولاً، حين يغامر صبي صوب البحر، مودعاً أمه، ومستقبلاً الأزرق، فيصلها قميصه قبل أن يصلها حلمه، فتبيضّ عيناك بالحزن، حين ترى رداءً قطنياً لصبية، نفش وبره، وتهالك، وكأنه لا يليق بها، وبوجهها، فتتسارع أنت والظل من يسبق أخيه، حاملين ابتسامة من بعيد، تراها تلتمع في عيني الصبية، فلا تقدر إلا على النشيج، وعلى التطهر، نعم.. يكفي.. ودائماً، أن تجد سعادة تختبئ لك في مسارات السفر، وأشياء من رضا يخبئها نهار المسافات.
تلك العين التي تتجول بين الأشياء، وبين الفراغات لتصنع عالمها، وذلك ظلي الذي يسبقني يصافح الكثير عني، ويعتذر، ويشاغب عني، ويحتمل، وهناك ثمة صبي لا يحب أن يكبر، كقرين مدلل، لا يفارقني، يجهدني في السير، ويرهقني بالمسافات، يقرع ذاكرتي بالأسماء، ومعنى كلمة الفرسان النُبلاء، وهناك «أنا» تلك التي تشبه سحابة بيضاء باردة، كثيراً ما أود أن أكون سابحاً بصوفية في ملكوت الأشياء، يشقيني حامل مسك «الأنا»، ذو النفس الأمّارة بالحب، المجنح بأجنحة أبعد منه، المتسربل باللغة، وما تصنعه الكلمات من سفر.
تلكم من أجنحة المسافر الذي يتعامد مع طفولته، المخزون الأول، والأقرب المطل على دواخل النفس، وحيثما كانت ترفرف الروح في أزمانها، وما رأت من حروف ونور، حيث لا إثم، ولا خطيئة، ولا أشياء يمكن أن تدنس الجسد، كانت السماء، وكان المطر، وما يمكن أن تطرحه النخل من رطب جَنِيّ، إن هززنا جذعها، كانت الحياة براري للرعي، وصبياناً ومزامير، وحملاً، وعشباً أخضر، تلك من الأسفار الأولى، أما الأسفار الكبرى فكانت في مدن الله الكثيرة، حيث تشاركت في رضاعتي، وحضّي على فعل الكتابة، وسبر العلائق المتشابكة بين جدلية الزمن والإنسان، بين الموت، الحب، والترحال، تلك دوامة الريح، وذاك شقاء الجسد، وأسئلة الروح، وما تفعله الكتابة المحلّقة هو صنع المقاربة، وفك الطلسم، وإيجاد معنى للحروف، وقدسية السؤال، إذا كان للريح من معنى، وللمطر من معنى، وللون الأخضر في الزرع من معنى، وللنار غير الدفء من معنى، ترى ما سر الأم التي لا تتعب من الحب؟ ما سر تلك الكلمة التي هي أثقل على النفس من الحجر؟ وأين البصر، إن غابت البصيرة؟ تلك بعض من أسئلة المسافر الذي يتبع ظله دوماً.. وأبداً، مبتدعاً هذه المرة سفراً في النفس.. ومعها.