أي أسى يأخذك إليه يا نفسي، وأي اكتئاب تنثرين في وهج أيامي وأحلامي، وأية أهوال ترجك فتنسحبين نحو عتمتك وتنثرين على خطوي ترددي وتأجيلي وعجزي. لماذا نسيتِ أنني كخصب النخيل كنت وعطر الياسمين، حتى أصبحت لا أرى بهجة تلوّح مناديلها لي، ولا مسرّة تنسل إلى وقتي المسيج بالضجر. أيتُها النفسُ الأبيةُ، منْ غيرك أقتفي ألقه وطفولته الأليفة؟ من غيرك يهتف بي: هيا انهضي خذي حبر روحك وفتنة خيالك وانغمري إلى أقصى مداك في نقش الشعر وتدوين الذكريات والتأمل في أسرار الحياة، فهذا هو مجدك الدائم، وهذا هو جوهر وجودك في الوجود.
 من غيرك أنت إذا رحلتِ في الغموض وسكنت معطفك الصقيعي سيدفئ برد هذا الوقت، ويدفئ برد أصابعي التي يبست في الصمت. ومن سيكنزني بالينابيع كي أروي حقل أيامي القليلة. وأنت يا أيتها الروح التي حمّلتني ثقل أحلامي التي من ثقلها تنوء بها الجبال، لماذا حطمت مجاديفي كلها ولم تبق لي غير أصابع متعبة تشق الماء في وهنٍ كي أطفو قليلاً كما تطفو الزجاجة وقد سدت بإحكام على رسالتها، وأسلمت للريح غايتها وللأمواج، فربما ألقت بها الأهوال إلى ما تشتهي، ومن سيفكُّ طلسمها ويقرأ على المرافئ أسرار مقصدها. وغير سفينة في متاه البحر، تؤرجحها الرياح على هواها، فلا مرسى يلوح على بعدٍ ولا كف تلوّح: مرحباً! أيتها الروح العصية على المساطر والعصي لماذا هدمت بقايا الظل، وهويت بطيش معولك العنيد حتى على الشبر الذي آوت إليه خطاي في الدرب الغريب؟ كنت اكتنزتك جمرة ليس من طبيعتها الرماد، فأي هول غيّرك، وغيّرت من طبائعها الجواهر ورمّدتك! الأرض واسعة.. قلت وقالوا.. لكنها ضاقت عليّ وكبرتُ في ظل الفجائع حتى لم يعد لي غير ومض خافت وسط الضباب. ولم يعد غير الكتاب والشعر والوهج الشفيف يقود خطوي كي أرى ما لا يراه الليل من حولي ولا النهار، وما ترسمه أحلامي من برقٍ يراود عتمتي ويشدّني نحو الحياة أو الغياب! كم غامت الأشياء يا روحي من حولي واختلط التراب بالزبد، والماء بالأهوال والظلُّ بالهجير. ولم تعد لي أمنيات وأحلام أشد عليها نواجذَ القلبِ، وأبصر من خلف وهجها ما أنتمي إليه أو إلي؟! لماذا يا نفس قلت لي: هذي أنا وليس يبلغ منتهاي سوى ما شادته روحك من شعر عميق واستأنسته!