نولد باكين محاطين بالدهشة، وفضول المعرفة، وذاك النور الذي يغشانا، فلا نبصر إلا حينما نعرف البصيرة، وتكوين الأسئلة، نشيب غارقين في تفكيك ظواهر الحياة، وسر الوجود، تكبر أسئلتنا، ونخاف من زرقة الضوء الذي أتينا منه، وعجز ما نحمل من أسئلة أنهكت الجسد والروح، ورافقت خطواتنا الأخيرة.
الإنسان بين حمل الأمانة وحرية الاختيار أوجد لنفسه مكانة عالية في هذا الوجود، وموقعاً رفيعاً بين الموجودات، أهلته ليكون الخليفة في الأرض، لكن هذه المهمة الشاقة أوجبت عليه اشتراطات وتحديات جعلت من جسده ينوء من أثقالها، وروحه تتعب من التحليق خلف نشدان المعرفة، وهو أمر طالما أقلق الفلاسفة والحكماء والأدباء منذ الأزل، في فهم تلك العلاقة التي بين الروح وبين الجسد، ولأي مدى يمكن للجسد أن يحمل الروح، ويتحملها بثقلها ذي الأسرار المعرفية، وأفراحها الكبيرة والصغيرة، وعذاباتها المؤقتة والسرمدية؟ إلى أي حد يمكن للجسد أن ينوء بمعرفة أسئلتها الوجودية الكامنة فيها؟ لعل ثمة علاقة، ورابط بين العقل والروح، فكلما كان العقل محاطاً بالمعرفة والنور، ارتقت الروح، ونشدت السمو الذي لا يأتي إلا مع الخلاص النهائي، حيث السكينة والطمأنينة والسبات الأبدي، تلك هي علاقة الروح والجسد.. وجدلية الفناء، فمن يا ترى حمل الأمانة، وقبل بالاختيار، الروح أم الجسد؟                                                            النساك والزهاد والعباد، وهي صفات لأفعال ولأشخاص مرتبطة بالتطهر من رجس الجسد، يجاهدون لكي يسلموا الروح في وضعية يكون فيها الجسد خانعاً، خاضعاً، فيفنون وهم في وضعية أقرب للصلاة والاستسلام المقدس في نقطة بعيدة، كقمة جبل أو أعلى منطقة من الأرض إلى السماء، وفي الأديان المختلفة، كان الكثير يتمنى لحظة اللقاء السماوي على سجادة صلاة أو في وضعية يحبها الرب أو في مكان مقدس أو بقعة طاهرة! الفنانون والأدباء كانوا يتمنون تلك اللحظة وهم أقرب لساعة الوعي والوحي الإبداعي، قريبون ممن يحبون، بعيدون عما يكرهون، «تولوستوي» حين ضاق به الجسد، ولم يتحمل روحه الثورية ترك هكتارات الأرض المزروعة، وعتق فلاحيه، وودعهم، وهجر زوجته، وذهب بعيداً، ووحيداً ليسلم الروح، وهو متخلص من ثقل الحياة، وما يمكن أن يكبل الروح، تماماً مثل بوذا حين أراد لروحه التطهر، ذهب ليتعلم من الحياة، ويعلم الناس، خالد بن الوليد مضى جل حياته في ميدان المعارك، وكان يريد لنهايته أن تكون هناك، لكن روحه فاضت على سرير كان يكرهه طيلة حياته، والمسيح ضحى بالجسد من أجل صعود الروح، وخلاصه كان من أجل أتباعه، وتطهير نفوسهم من الآلام!                                             فكرة انتحار بعض المبدعين والمشاهير في التاريخ، ورسائلهم الأخيرة تشير أنهم كانوا يريدون خلاص الروح من عذاباتها، والأسئلة الكبيرة التي لم يعرفوا إجابتها في وقتهم القصير، وزمنهم الذي يطاردهم.    
الجوع والصوم، ونبذ مباهج الدنيا، كانت جزءاً من خلاص الروح وانعتاقها من رسن الجسد، كانت طريقة عند الكثيرين المشغولين بالتطهر النهائي والأبدي! النبي سليمان بن داوود أوتي ملكاً عظيماً، وسخرت له الريح والجن، وعلم منطق الطير، وألين له الحديد والقطر، وعاش أمداً، لكن حين أراد تسليم الروح دخل المحراب وصلى متكئاً على عصاه، ولم يعرفوا جنوده من الإنس والجن بخبر موته إلا حين وجدوا منسأته - وهي العصا بلسان أهل الحبشة - قد أكلتها دابة الأرض، ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فباتت تأكل منها أياماً وليالي، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد أسلم الروح، وفني الجسد منذ عام!
هل من تباشير جديدة يحملها المستقبل وما يصنعه الإنسان في سبر العوالم والفضاءات وتسخير قدرات الذكاء الإنساني المتطور في فهم هذا الوجود، وحل معضلة تلك العلاقة بين الروح والجسد؟ أم سنظل نشيب وتكبر أسئلتنا مع العمر في جدلية سؤال الجسد.. وجواب الروح!