الحقيقة، مفردة يرددها الكتاب والمفكرون وعامة الناس، دون أن ينتبهوا إلى معنى هذه المفردة أو تجسدها. فالكل يدعي الحقيقة في قوله، أو يطالب بها، أو يجتهد في البحث عنها، لكن الحقيقة تظل مبهمة في كل تجليات الثقافة لأن الحقيقة ليس لها تجسد واحد، وليس لها حقيقتها الواضحة المعالم والدلالة، فالحقيقة نسبية في كل مظاهر الحياة الطبيعية والبشرية، النظرية والعلمية. وفق تعريف «آينشتاين» الذي أضاء مفاهيم كثيرة ظل يتخبط فيها الإنسان إلى اليوم، ومنها الحقيقة وغموض تحديدها وتعريفها. فما نعتقد أنه حقيقة شيء ما، يراه غيرنا ليس كذلك، بينما أننا معاً قد نجهل الحقيقة الكامنة في ذلك الشيء. ومن هذا المبهم تصبح الحقيقة مفردة مترجرجة، غير ثابتة، وغير واضحة. إذا سلمنا بأن الحقيقة هي سبب كل شيء وعلة وجوده، فإن حقيقة ذلك الشيء ليست ثابتة، وليست واحدة في أصل كل الأشياء، لأنها تختلف باختلاف الأسباب والعلل والظواهر، كما تختلف باختلاف معرفتنا وإدراكاتنا لها. هذه المعرفة والإدراكات التي تستمد قيمتها من كم اجتهاداتنا، ووسائل هذا الاجتهاد، ومناهجه، فإذا كان البحث عن الحقيقة في أمر ذي طبيعة علمية بحتة، كظاهرة من ظواهر الكون، فيزيائية، أو كيميائية، فإن الحقيقة التي تنبثق عنها وبسببها هذه الظواهر تظل افتراضية تنطوي على اليقين الآني والشك المحتمل. وهذا اليقين المفترض والشك المحتمل يتيح للعلوم مساحة التطور التي نشهدها اليوم. أما إذا كان المبحث عن الحقيقة في أمر نظري يستند على الاستقراء والاستنتاج والتأويل المبطن بنزعات الخيال، فإن البحث عن الحقيقة يظل خاضعاً لظرف المكان والزمان والمعايير والقيم والموروث، أي أن مساحة حركتها بين اليقين والشك تظل أضيق من مساحة البحث في الموضوع ذي الطبيعة العلمية البحتة. 
في صباي، لقنت ابني البكر مقولة وردت في كتاب عن المهاتما غاندي: (أنا حر، أنا شجاع، قضيتي الإنسان، والبحث عن الحقيقة)، ظل طفلي يرددها كلما استيقظ من نومه. وحين كبر صارت هذه المقولة موضع تساؤلاته. فإذا كانت جملة «أنا حر» قد أثمرت لديه الإحساس العميق بالحرية. وإذا كانت جملة «أنا شجاع» قد غرست فيه القدرة على مواجهة الصعاب. وإذا كانت جملة «قضيتي الإنسان» قد أثمرت رغبة أصيلة باحترام الإنسان والكائنات وحقها في الحياة والوجود، فإن جملة البحث عن الحقيقة قد وضعته في مسار صعب أدى به للتوغل العميق في كل معرفة علمية أو نظرية يتوالد في مسيرتها السؤال إثر السؤال!