منذ يومين، اتصلت بي خالتي الغالية على «الواتساب» مرفقة بصورتها الجميلة. شعرت بالغضب على نفسي، لأنني لم أزرها منذ أشهر عدة. فقد شلتني الكآبة والعزلة، حتى عن زيارة خالتي الغالية وصفية عمري. وكان ردي عليها اعتذاراً خجلاً، ثم استيقظت الذاكرة للسنين التي جمعتنا وفرقتنا طرقات الحياة. فقد نشأنا ونسجنا أحلامنا معاً، وحرسناها بالأمل والطموح. خالتي ذات نزوع مرهف منفتح على الجديد، وروح شاعرية متوثبة طلقة، لكنها عجزت في ظل الصرامة العائلية ومفاهيمها المتيبسة أن تشق لها درباً مفتاحه التعليم، لكنها أدركت أن الأقفال مهما قست تظل الروح عصية على القيود. ورغم ما عانته من تغييب واستلاب، ظلت ترتجل الشعر وتدونه أحياناً للتوثيق فقط باللهجة المحكية. ومازالت بعض قصائدها مدونة بين أوراق مكتبتي. فهي مليكة الارتجال. تنساب القصيدة كاليسر والماء بين شفتيها كأنها دفق الروح وهمس الغصن وتردد النبض ورهافة الانتباه إلى ما يحيط بها وما يؤثث حياتها. اتسمت بعض قصائدها بالتهكم والهجاء، وبعضها بالاحتفاء بالحياة.
يذهلني دوماً ارتجالها بالتدفق الشعري وعفوية الوصف والتقاط الصورة والمفارقة بين حالين أو مشهدين. فلا تحتاج معه إلى جهد أو بحث عن المفردة. موهبة فطرية تميز بها الشعراء منذ القدم وقبل نشوء الكتابة. الشعر عندها عفوي يمزج العقل بالروح، والسر بالوضوح والفن بالفطرة. فلا تبحث عن مجد، ولا تسعى به لكسب الشهرة. ولم تنشر قصائدها المحكية أو النبطية. ولا أحد يعرفها سوى أبنائها وسواي وبعض أفراد العائلة، التي تستنجد بها في مناسبة فرح لقريب أو صديقة حميمة. وهي امرأة ناعمة كأنها نسمة، ضاحكة كأنها الخرير، ورهيفة كأنها بتلة وردة. فالزمن يمر خجلاًَ متوارياً ساحباً ظلاً رهيفاً على ملامحها، كأنه يخجل أن يحفر بإزميله المعتاد عليها كي تظل صبية تختزل الأمومة وتترنم بالشعر. حين أحتار في تفسير هذا الجسد الفتي دوماً، وهذه البشاشة رغم الأحداث المريرة التي رافقت أيامها، أعرف سبب هذا السحر الذي يحيطها، فقد ورثت من والدها أصابع الإبداع في يديه حين يصهر الذهب في بوتقة النار ليحيله إلى فن نادر النقش والجمال. وهكذا خالتي تسبك قصائدها من منابع الحياة وحكمة العمر دون مرجعيات الكتب والثقافة. وحين أستمع إليها وهي تقرأ لي قصائدها، أدرك معنى أن يولد الإنسان شاعراً يغني الحياة بهذا الفن السحري الذي يشبه همهمات الكون الخفية!