شكراً لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات، فحين أُدعى إلى فعالية ثقافية تقام في قاعة أحمد راشد ثاني بمقر الاتحاد في الشارقة، تستيقظ ذاكرة لقائي بأحمد راشد ثاني. فقد عرفته منذ زمن، كانت الأرواح سحباً والأحلام خصبا. وأذكر أننا اختلفنا حيناً كمسارين شتت بهما الطرقات، لكننا عدنا إلى ألفة الأخوة، كبحارة خانتهم الأشرعة، ثم اهتدوا بالروح لا بالريح. وابتنوا منارة كي يبصروا. هكذا بمغزل المحبة صغنا صداقة وأخوة حميمية.
وأحمد مائي في بواطنه كالنبع في بواطن الجبال. متعرج في ظواهره كأنه التضاريس. وحين تستبد به الوحشة يقول في ديوانه «حافة الغرف» (لا أحد قربي كي أزور حياته). وأحمد لا يهدأ في مخدع ولا يستكين إلى جدار، كأنما الهدوء ضد، والطمأنينة قرار العتمة. لذا لا يمكن أن تؤله إلى غير ما هو عليه، حيث أنه ليس: (إلا تناسل آبار غفيرة على سطح البحر). وأية فداحة أن تكون نبعاً زلالاً يدفق في محيط من الملح، المحيط الذي (يعود حاملاً غرقى الكثبان وحافة الغرف)، وحيث إن، الغرف والأمكنة ليست سوى شبيهات الزنازين، سيقف على حافة الغرف ويرقب دون أن يلج، مخافة الغرق في السكينة، محاطاً بعزلته الثرية سيعبر قليلاً إلى الآخرين، سيمنحهم الود والصداقة، سيجوب معهم الطرقات والزوايا، ويغمس خبزه في صحن انكساراتهم ليعود مستوحداً:(ادخل إلى جزيرة البيت. الباب يغتبط بمفتاحه، ونحوه تسيل النوافذ والأدراج، البهو يهش له، والحائط يتأنى). لكن البيت لا يمنحه ذلك الحنو الذي يشتهي، ولا يهدهد التعب الذي أضنى الروح، فيلقي بجسده المتعب على ذلك المقعد المستوحد به، ليهتف في ألم: (كل مرة أقبض على بدد، حتى عم العماء). وربما نظن أن بيته الجزيرة محاطاً بالماء أو السياج، لكننا ندرك إذ نقترب، إذ نفتح الباب، يدهشنا كما يدهش أحمد ذاته، أن الجزيرة/ البيت مكتظة بالصعاليك الذين حط بهم الترحال في تلك الجزيرة ليتزودوا قبل الرحيل إلى الجهات. سيضحك أحمد العائد إلى وهم الجزيرة، سيهش للداخلين، ويمنحهم فيض قلبه، وما تيسر له من بهجة. وإذ هو سادر في ضحكته وفوضاهم، يضيء الشاعر المشهد ليرى أنهم (عابرون على قارب الصدف تهتز صورتهم في تكسر الماء تحت مصباح السنين)، أنها صورة شعرية بالغة الروعة، شديدة الإيجاز، ثرية الدلالات.
أحمد راشد ثاني، شاعر فقط، في ظاهره خشونة النساك وفي باطنه أناقة الشعر وثراء الشاعر.لا يذهب إلى السرد بل ليلقي (بإشارته الوحيدة) إلى النهر. وعلينا أن نلقي برسالته المبتلة بندى الشعر إلى الوديان كي تلد الخصب.