لأنني أعاني دوماً الاكتئاب، صرت أبحث في الكتب التي تعنى بعلم النفس، فوجدت أن بعض الباحثين الأميركيين قد أكدوا أن المبدعين الأصحاء أقرب في شخصياتهم للأشخاص المصابين بالاكتئاب مقارنة بالناس العاديين. وقام باحثون في جامعة «ستانفورد» الأميركية بإجراء اختبارات معيارية للشخصية والإبداع والحالة المزاجية لحوالي 47 شخصاً من الأصحاء، و25 من المصابين بالكآبة، و32 شخصاً من الأصحاء والمبدعين في الكتابة والفنون بتعدد أنواعها. وأظهر التحليل الأولي أن الأشخاص في مجموعة المبدعين والمصابين بالكآبة أكثر انفتاحاً ومزاجية وعصبية من الأشخاص في مجموعة الأصحاء.
وكشف الباحثون عن أن المزاجية والعصبية هما جزء من مجموعة الصفات العاطفية السلبية التي تتضمن الأشكال البسيطة من الكآبة والاضطراب «ثنائي القطبية»، وقال هؤلاء في استعراض لأبحاثهم، خلال الاجتماع السنوي للجمعية الأميركية للطب النفسي، إنه على الرغم من أن هذه النتائج لا تزال أولية، فإنها تقدم خطة مناسبة لأطباء النفس الذين يتطلعون إلى حل لغز الارتباط بين العبقرية والكآبة. ويسعى الباحثون إلى الكشف عن كيفية تأثير المزاج على أداء الفنانين والعلماء المبدعين والشعراء والعباقرة، وفهم الجانب العاطفي لأعمالهم، وعبر «سيغمون فرويد» عالم النفس التحليلي، في كتابه «النظرية العامة لأمراض العصاب»، عن أن الفنان انطوائي من حيث المبدأ، وإنه واقع تحت قهر الحاجات الغريزية المتزايدة. وهو يرغب في أن ينال الثروة والشهرة ومحبة الناس، لكنه يفتقر إلى الوسائل التي تعينه على إشباع هذه الحاجات. والشاعر والفنان لديهما قدرة عظيمة على التسامي، وعلى التراخي بدرجة معينة في عمليات كبت صراعاته الانفعالية، وبخاصة الإثارات المرغوبة والمفرطة في شدتها، بحيث يجد متنفساً لها في مجالات أخرى. والكاتب «جراهام جرين» يكتب في سيرته الذاتية، أن الكتابة أسلوب من أساليب العلاج. وإني أتساءل في بعض الأحيان: كيف يتسنى لمن لا يكتب أو يؤلف الموسيقى أو يرسم أن ينجو من الاكتئاب، أو الخوف من الموقف الإنساني؟ وللاكتئاب علاقة وثيقة بهذا الأمر، حيث يمثل العصاب النفسي انفعالاً مكبوتاً ويعبر العمل الخلاق عن انفعال متحقق، كما يقول الطبيب النفسي «جورج بيكرنج».
ويقول «أندريه جيد» إن أجمل الأشياء هي تلك التي يوحي بها الجنون ويكتبها العقل. فالمجنون والعاشق يؤلف بينهما الخيال، كما أكد شكسبير في مسرحيته «حلم ليلة صيف». أما الشاعر الفرنسي «لامارتين»، فقد قال إن العبقرية تحمل في ذاتها مبدأ الموت والجنون، كما تحمل الثمرة في باطنها الدود. وهذا ما أكدته سير بعض العباقرة.