ذات يوم بعيد في الزمن كنت مدعوة لزيارة عائلة صديقتي العزيزة ندى، في مدينة عامودا بسوريا. كان الطريق إلى عامودا، صحراء تمتد بين تدمر والحسكة، والتي تمر من دمشق وإلى أي مكان. صحراء تسورنا، تحيط بنا وتنسل بقحلها إلى الروح والقلب. القلب أيضاً كأنه صحراء لا تحدها بهجة ولا يتراءى خلف امتدادها نبع ولا شجر. لماذا الإنسان في حالة ما، في زمن ما، يصير صحراء، لا بهجة ولا أسى، لا طمأنينة ولا قلق، لا فرح ولا حزن. صحراء تمتد داخل الجسد والروح وخارجه.. الروح التي كانت شعلة لا تنطفئ، وكانت نبعاً لا ينضب، وكانت مفتاح المغلق ونافذة الكشف؟ لماذا صارت الكآبة مسكني في ذلك اليوم، وكانت زائراً غريباً عابراً؟ هل تفعل الخيبات فعلها في العمق البعيد للروح والجسد؟ ماذا أريد؟ هه هه.. أهذا سؤال يطرح على الذات بعد سنيّ العمر كلها وبعد عبور الوعر والعثرات؟ لماذا ينبت هذا السؤال الآن وكأنه يستبطن الأحلام والأماني والطموح؟ ربما لأن شيئاً من هذا كله لم يتحقق مخلفاً الفراغ الذي يحيط بي ويلفني ويكسرني. إذن، إلى أين تمضي خطاي بعد؟ وأي مبتغى أتوق إليه الوصول؟ هل أقود ذاتي في تلك اللحظة أم أنني مقادة؟ هل أنا وحدي أم أنني غيري؟ هل انتقيت ما أنا الآن أم أنني قبلت أن أكون ما شاءوا؟ ومن هم الذين شاءوا لي أن أكون ما شاءوا؟ خليط غامض متمازج مشتبك قديمه بجديدة، حتى ظننت، وأظن أنه أنا، هكذا تصاغ شخوصنا من مبتدأ إلى منتهى، وفيما نعبر قانعين أو مقتنعين على مضض أو متمردين على وهم، نظل خبز الآخرين وعجينهم، ونظل أيضاً نسوّى على لهب نارهم حتى الاحتراق الأخير.
السيارة تسير على طريق معبد ليجتنب السائرون عليها العثرات. طريق سالك تنتثر على حوافه الإشارات للدلالة. من يعبد لنا طرقات الحياة، من يرسمها، من يضع الإشارات كي لا نضيع؟ لا أحد، لا أحد. وحدنا نشق الطرقات الصعبة ونضع إشارات غامضة نتوهم أنها تدلنا، ثم ندرك بعدها أننا ضللنا الطريق إلينا، إلى عمقنا، إلى ما نشتهي ونتوق. شهر ونصف كنت في سوريا لم أرَ فيها سوى بيتي في صحنايا، وبيت صديقتي أميرة وبيت عامودا. شهر ونصف لم أعد أيامه ولم أدون خفاياي وخفق قلبي وهواجسي. فقط قضيتها متنقلة بين صحنايا والسويداء وعامودا. فشكراً لذاكرتي التي لا تنطفئ!