حرص مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة على أن يكون يوم النصف من شهر شعبان يوم يكثر فيه الود، وينتشر التسامح، فيطيح الحطب وينقشع ضباب سوء الفهم والكراهية والتباغض والتشاحن بين الناس. أذكر في طفولتنا كنا ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر، فنمشي على الزعلانين ونجبر خاطر المتخاصم معنا، ونقبل رأس من يكبرنا، ونتوايه مع من في سننا، فيبدأ شهر القرآن بصفحاتٍ بيضاء يُكتب لنا فيها الأجر (بإذن الله) بدلاً من السيئات. هذه المناسبة فرصة لمن ركب أعلى ما في خيله، ومن لا يستطيع الاعتذار أو التنازل أو التراجع عن موقفه حتى وإن كان هو سبب العلة والدواهي.
في تحليلي المتواضع للموروث الإماراتي المتعلق بهذه المناسبة المهمة، أقرأ عنصرين لهما علاقة بالطفل، أولهما احتفال الأطفال بالنص/ (بالنصف من شعبان)، وتوفير الأهالي الحلوى للأطفال الذين يطرقون أبواب بيوتهم، وأعتبر ذلك من أهم عناصر تهيئة جو من السعادة والإبداع، إذ يغني الأطفال وهو يركضون في السكيك أغاني مركبة، وتتناسب مع أسماء أصحاب البيوت التي يُعجَبُ الأطفال بهداياهم، ويؤلفون أغاني ساخرة لمن يتخلف عن ركب إسعادهم. هذا الاحتفال هو لجذب الأهالي الزعلانين بوساطة الأطفال لإيمانهم بالمثل الشعبي «من فَرْح صبي فَرْح نبي»، وتميل الناس وتلين قلوبهم لمن يسعد أطفالهم فيكون التسامح والصفح أسهل وأقرب.
 والعنصر الثاني يتعلق بالكبار الذين يذهبون للتسامح فيدقون أبواب الآخرين وبرفقتهم أبناؤهم، كانت الأهالي تعد الفوالة للكبار وخليط البرميت والچاكليت والبييذام الملبس وسحيح السوق للأطفال، واستمرت العادة في وجود الكبار أو في غيابهم حتى أصبحت ظاهرة مجتمعية تبث الإيجابية، وتهيئ النفس لشهر الصوم والبركة، وهي بذلك بعيدة كل البعد عن الهالوين.
كانت خالتي سلامة ترسل لنا صحن به زليبيا وغرشة فيمتو وكيساً به هذه الحلويات ويحتوي على خمسة دراهم كنت أنتظرها طوال السنة. عندما سألتها: «خالوه، حق شوه الخمس روبيات» قالت: «اللي ما يعيبه اللي في خريطتنا يسير الدكان ويشتري له اللي يباه»، وكأنها كانت تقول من ذاكرتها بهذه الخمس سوف أشتري راحة البال وانتقادات الأطفال وأغنياتهم الناقدة.
هذا العام رحلت خالتي سلامة وأوصد باب كان يأتينا منه رايح الموروث، وعبق الماضي، وإرث الآباء، والأجداد.. لن تتصل بالدريول أو تتابع سيره حتى يصلني، وتؤكد حصولي على الحلوى والخمسة دراهم. يرحلون ونحمل لواء الموروث بمسؤولية وجد واجتهاد، وعندما وضعت الحلوى والخمسة دراهم في الأكياس المنمقة جاء طفلٌ منزعج يقول: «عموه، راعي الدكان نسي فلوسه في الكيس»، فقال الآخر: «صدق عموه، حتى كيسي أنا بعد فيه خمس دراهم»!
للعارفين أقول، هناك قاعدة قضائية تقول إن: «العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني»، والمقاصد أخص من المعاني وأدق، فالمقاصد: هي دقة الفهم، وأما المعاني: فهي الفهم فقط. وأرى أن موروثنا الغني العميق بمفاهيم التسامح والكرامة والإنسانية يعتمد على العبرة بما أُضمر لا بما أُظهر. والباقي عندكم!