للصباح أن ينشر فضته من وراء نافذتي، سوف أرقد دافئة في سريري وأترقب. قال المركز الوطني للأرصاد بهطول أمطار غزيرة، بدءاً من يوم السبت إلى يوم الأحد. للضياء أن يتباهى بإشراقته في بهو الحديقة، وأن يختال مخادعاً ظلال زاويتي، ولي أن أنتقيه مراوغة سطوعه الباذخ، فالمطر سوف ينسكب ساحراً وغامضاً وكرستالياً، يصل السماء بالتراب، الروح بالوجود، الأشياء بحضورها، والذاكرة بالتيقظ. ثمة نشيج ينهض من قيعان الروح حين ينهمر المطر. ثمة صور وبشر وكائنات، ثمة أزهار وعشب وقناديل وأشياء منسية في البعيد. أحباء مروا، أقاموا وغادروا، واستقروا في العراء الشاسع للذاكرة. العراء الشفيف الباهر، كأنهم أطياف وخيالات عبرت أفقاً وتناثرت وتلألأت في السديم!
أية انفعالات مبهمة واضطراب لذيذ يوقظه المطر. أية مشاعر غائمة حيناً وشفيفة حيناً. وجدٌ ينهض ومسرات، وألم الروح حين البعيد لا يطال. وحين المنتظر لا يجيء. حين الرغبات تسير إلى انطفائها كأوراق مصفرة في خريف الصبر. أية عذوبة تنهض حين هطول المطر، أي نشيد ونشيج حين يطرق نوافذ النسيان. ذكريات مرت بنا في ومضة حب، وفي غيبوبة هوى. كشيء يشبه الغياب. صور تنبعث، وضحكات، ودموع توشك، وصلابة كعروق الألماس! أي تكوين باذخ لأحرف المطر: الـ (م) ميلاد، والـ (ط) طوفان، والـ (ر) روح. أية حركة وإيقاع، ألفة وتناقضات، عصيان وهدوء. 
اندفاعات وهدأة الأشياء وضجتها، وطمأنينة الإنسان وفرحه حين يرى ثراء الطين ونشوة الجذور بعد هطول المطر. الماء في الأحواض والغدران والأنابيب لا يشبه ماء المطرحين ينسكب كغلالة ضافية، لأنه يهطل منسكباً في حنو بالغ على الأشجار كأنما هو عاشق يسري لموعده، مرتعشاً ومائياً. والأنفاس دافئة تتبع خطاه رذاذاً أو هطولاً. كأن الكون كله يتجمع في قطراته، كما يتجمع الكون كله في الشبر الذي يقف فيه الحبيب، ناسياً حين ينهمر المطر على قامته، وناسياً في نشوة الهطول بعض الطرقات الترابية. حين ينهمر المطر لاهياً وناسياً أننا بعد لم نتعلم كيف نحتفي به، كيف نحيله إلى أمنية جميلة ننتظرها، حين يحيلنا إلى الوحول. المطر حين يهطل ينسى أن بعض طرقاتنا المغطاة بقشرة الأسفلت لم تعدّ صالحة لاستقباله. وربما ينسى أننا ما زلنا نتخبط في طرقات الأماني مثلما نتخبط في الطرقات الموحلة حين هطولك الغزير. فيا أيها المطر الحنون اهطل على سقوف بيتي لتغتسل من تراكم الأتربة والغبار خلال غيابك. وحدها الأشجار والعشب والأزهار. وحده الصلصال يضحك للمطر! معطرة بفرح المطر أرقب ما حولي، وما بداخل الروح وخارجها. الوهج الباذخ وارتعاشات الغصون تبهجني. خفق الفراشات ورفيفها. لغط العصافير وتغاريدها. وحين أسمع نهنهة الجذور العطشى، وأرقب هطول المطر عليها أهمس: السحب قطن السماء، كلما أجهش البحر ضمدت حزنه ومضت في البكاء!