لو قلنا إن الإنسان المعاصر أكثر جهلاً من الإنسان القديم، فسوف يصاب الناس بالذهول، ويستنكفون من هذا التصريح الواضح والصريح.
أعتقد أن المسألة بحاجة إلى قراءة واعية ومستفيضة وعميقة لما يحدث في عالم اليوم من صراعات دامية يندى لها الجبين.
فعندما تنشب الحرب الضروس أنيابها في أجساد العزل، عندما تصبح الحرب حرباً من أجل البقاء، تصير البشرية كما هي الضواري في الغابات الموحشة، ينهش بعضها بعضاً، وتصبح الحروب «غاية وليست وسيلة»، لتخليص الإنسانية من شر ما محدق.
على مستوى القارات نرى ما يحدث في العالم من جرائم قتل وإبادة وحرمان وطغيان، لماذا؟ لأن الذات البشرية لم تعد تطيق الآخر، ولم تهنأ في العيش جنباً إلى جنب، وكتفاً بكتف، فكل يقول «أنا ومن بعدي الطوفان».
هذه الزلزلة والغربلة والجلجلة غيّرت معالم الحضارة الإنسانية وملامحها وسماتها وقوانينها وثوابتها والثورات التي قامت في القرون السابقة منذ ثورة 1789 في فرنسا، والتي حطمت حصن الباستيل، وأيقظت في الوعي الأوروبي خاصة، والإنساني عامة معنى أن يكون الإنسان إنساناً معافى من درن الكراهية، مشافى من عواتي الأنانية، خالياً من رثاثة الطغيان والبهتان.
واليوم عندما تتأمل الواقع العالمي تقول للفكر الحضاري السابق، «وكأنك يابوزيد ما غزيت»، لأن البشرية عادت من حيث بدأت، وصار الموت مثل شربة الماء، وأصبح القتل مثل مصائد العصافير، والكل يريد أن يهزم الكل، والكل يقول أنا الأفضل، والكل لا يطيق الكل، والكل يريد أن يعيش في معزل عن الآخر، وهذا ما يخالف قوانين الطبيعة، لأنها أنزلت قوانينها على أساس أن الكل يعيش في ظل الكل، ولا أمر على الإنسان في أن يعيش في جزيرة نائية، ويقول ها أنا أكبر وأنقى من الآخرين.
جريمة كبرى لو اعتقدنا أننا نستطيع العيش دون الآخر، وأتخيل أن هذا كمن يحلم بالعيش بيد واحدة أو ساق واحدة.
هذه المعرفة جاءت من سوء معرفة، وهذا الجوع والتشظي والشظف الذي جاء من معرفة عمياء لا تستدل على الحقائق، معرفة أسير بعكاز متهتك، وفي طريق مليئة بالحفر وشياطين الرثاثة والغثاثة، وأحلام المراهقة الفكرية.
تقول الحكمة القديمة «إن تفهم الشيء تدركه، وإن تدرك الشيء تحبه، وإن تحب الشيء تكون أنت هو وهو أنت، تكونان في الوجود واحداً» هذه هي الحقيقة، بالحب وحده تتسع المعرفة بالأشياء ويكبر الإدراك، وينتهي الغضب الداخلي، وتتلاشى غضون الجباه الحزينة.
العالم اليوم بحاجة إلى ترياق الحب لكي تنتهي هذه المعضلة الإنسانية، وهي الحروب العبثية.
العالم بحاجة إلى فكر جديد يزيل الصدأ عن حضارتنا، ويغسل ثيابها بالوعي وينظف وجهها بصابون الإدراك الحقيقي لخطورة الحروب والصراعات التي لا مبرر لها سوى طغيان «الأنا».