يحدث كثيرا أن نتشدق بأقوال تعجبنا، قرأناها أو سمعناها من أحدهم، فنتبناها علناً، ونعيشها صوراً، نرسم ملامحها بدقة على وجوهنا، ونصطنع من بعضها أفعالاً نوهم أنفسنا مع الوقت بأنها لنا، كاحترام الآخرين مهما كانت قناعاتهم. والحقيقة أننا - ومن دون وعي - نسقط في فخ تصديق أنفسنا، فيما كل الممارسات الصادرة منا تحمل أحكاماً على الآخرين، أغلبها أحكام قطعية لا تقبل المناقشة؛ فنعتقد أننا الوحيدون الرائعون والمبدعون وأصحاب الحضارة والطيبون الأذكياء، والمظلومون أيضاً. وليس ذلك فحسب، بل إن هناك من يكرهنا ويغار منا. هذا التصور المخادع للنفس يجعل الإنسان لا يرى سوى نفسه في المعمورة، ومن لا يرى غيره لا يمكن أن يعرف حقيقة نفسه.
المصيبة الحقيقية تتعدى ذلك بكثير، فبعضهم يتصرف هكذا بدعوى ارتكازه على قيم راسخة! بينما الحقيقة الوحيدة التي يجب أن نرتكز عليها، أنه لا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة التي قد يمتلك آخر في هذا العالم جزءاً آخر منها.
مهما تنوعت وأحاطت أدوات المدَنية شخصاً ما وظهرت عليه تبقى صفة التحضر منقوصة إذا لم يكن الفعل الثقافي حاضراً في علاقة هذا الشخص بكل ما حوله. والفعل الثقافي ليس سلوكاً حكراً على فرد من دون غيره، ورغم ذلك نادراً ما يولد بعضنا بهذه الملكة الإنسانية؛ لذلك فالاستعداد للانفتاح على الآخر بعلومه واختلافاته يعد مقدمات مؤثرة بلا شك في وصول الوعي إلى الفعل الثقافي.
هذه الميزة التي تعد إنسانية بامتياز، هي الأساس لإسباغ هذه الصفة على من نتعامل معهم وندرجهم في أهل الفكر والثقافة، لا حضور الفعاليات الثقافية والمشاركة فيها، ولا اقتناء اللوحات النادرة وقراءة الكتب وحفظ أسماء كتابها.. وغيرها من أدوات تحضُّر - دُرج على اعتبار من يقومون بها مثقفين- تعد دليلا على ثقافة فاعلها، بل الفعل الثقافي لصاحب هذا النشاط بما يفضي إليه من قدرة على استيعاب الآخر واختلافاته وكل خياراته، واحترامها، ومن ثم البحث فيها عما هو مشترك، والتمعن في المختلِف والنظر إليه بشكل إيجابي للاستفادة منه، هو ما يجعله مثقفاً.
احتكار الحقيقة سبب كل الصراعات البشرية، وسبب كل خلافاتنا الإنسانية مع بعضنا البعض. نتحرك بثقة مبالغ فيها، مرتكزها الأساسي عدد محدود جدا من المعلومات التي نمتلكها، مقارنة بما هو متوافر فعلا في هذا العالم ويمتلكه آخرون في مكان ما، وكم كبير جدا من الأوهام التي تناقلناها وراثة، في عالم أيضا مليء بالأوهام الموروثة التي تحيط بآخرين يعيشون هناك، كل ما يحتاجه أي مثقف هو استيعاب هذا النقص في حقيقته.. بكل بساطة.