من الملامح الرئيسية في منطقتنا اليوم أن الأجندات السياسية ما تزال الأكثر تنافساً وتكاسراً، مقارنة مع العقود الماضية التي شهدت تشكّل النظام العربي خصوصاً. حين كانت المشروعات الثقافية روافع أساسية للدول وسياستها، ومعياراً لقوتها، كما هو حال مصر عند منتصف القرن الفائت، حينما كان المدّ القومي من المركز إلى الأطراف يعني هديراً لمطابع الكتب في بيروت والقاهرة، وأسواقاً للقراءة من المحيط للخليج، وحركة غنية للترجمة والفنون والتراث والفلكلور الشعبي.
الفعل الثقافي يتراجع عربياً، بينما يتقدم الإعلامي، اليومي، والسريع، والاستهلاكي، بصوت عال ومسموع، وأحياناً كثير الضجيج، لخدمة الأجندات السياسية، وغالباً يساهم في مزيد من الاحتقان والاصطدام، وتغذية الخلافات والصراعات.
إزاء ذلك أتاحت الإمارات فرصاً واعدة وحقيقية لمشروعات ثقافية متعاضدة ومتجاورة، ومؤهلة للتأثير في الوعي الاجتماعي، والتنمية الجديدة، بالشروط الجديدة نفسها لتكنولوجيا المعرفة، وفي زمن تُدر فيه البرمجيات والتطبيقات ومنصات التجارة الإلكترونية عوائد تفوق الثروات الطبيعية لكثير من الدول.
«القمة الثقافية أبوظبي 2019» أظهرت أهمية الرهان الإماراتي على دور الثقافة في الحفاظ على المكونات الحضارية وتنميتها، وفاعليتها في توسيع آفاق الانفتاح، واستيعاب تجليات الحداثة في العالم، فالمضمون الأساسي للثورة الصناعية الرابعة ثقافي بالضرورة، لأن مخرجاته تتصل باستراتيجية الدولة في بناء مجتمع معرفي، يكون فيه التراث منتجاً حيوياً متجدداً، والإبداع صناعة وطنية برؤى إنسانية، ويكون فيه الابتكار مشروع دولة.
هذه هي «المسؤولية الثقافية» التي طرحتها قمة أبوظبي، وتنهض بها الإمارات منذ سنوات، فلا بد لأي مشروع نهضوي من جوهر ثقافي، يحمله إلى غاياته وأهدافه، وأن تصل دولتنا إلى عام التسامح، وترسخ مكانتها في الوسطية والعقلانية السياسية، ليس إلا تعبيراً عن مفاعيل العملية الثقافية الشاملة، وجواباً عن القيمة والأثر لتزايد البادرات والمؤسسات الثقافية في بلادنا.
المحصلة أننا لم نمتلك البنية التحتية فقط، وإنما ملأنا فراغاً في المشهد الثقافي العربي. فأثبتنا أن التجسير الحضاري، عبر توطين الفنون العالمية في بلادنا، منتج على نحو يفوق التوقعات، كما هو الحال في متحف «اللوفر أبوظبي»، ومشروع «جوجنهايم أبوظبي»، وتبني وزارة الثقافة وتنمية المعرفة سياسات لصناعة الإبداع، لمواكبة الطفرة التكنولوجية، وأسئلتها وتحدياتها، وتحويلها إلى منافع مباشرة، وسط استمرار زخم منصات الطباعة والنشر في معرضي أبوظبي والشارقة للكتاب، و«تحدي القراءة العربي»، وسواها.
والحال أن السؤال الذي طرحته وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة، نورة بنت محمد الكعبي في افتتاح القمة، عن قدرة القطاع الثقافي والإبداعي على تحمل مسؤولية الثورة التكنولوجية، بما يتماشى مع رؤية الإمارات 2021» يلخص كثيراً مما نريده في المستقبل الذي نستعد له منذ الآن.