- بعض الشعوب تظل خاضعة حتى لو خرج الاستعمار، فاراً منهم، لأنهم لا يليقون بالاستعمار، والحياة تغيرت، والمستعمر لا يريد أن يسحب معه في الألفية الثالثة شعوباً متأخرة، لكنها تظل تحنّ له، ولا تحب أن تتخلص من نير الاستعمار، وما زالوا يكنون لذلك المختلف عنهم كل احترام، وتقدير، وتأسف على أيامه، وما زالت كلمة «يس.. سير» تطرب أذانهم، ولا يودون التخلص منها!
- محي الدين، جاء خائفاً هنا، ولازمه الخوف في كل خطواته المرتبكة، واللغة كانت عائقاً، ومصدراً لزيادة الخوف، الغترة البيضاء والعقال، سيارة الأرباب، كل هذه الأشياء ربت مزيداً من خوف يحاصره كل لحظة، فزاد ارتباكه، ورجفته، وتهدج صوته، حتى أصبح خائفاً من الخوف نفسه، وكل كلمة يقولها الأرباب يعتقد أنها تعبر عن سخطه لعدم إتقان عمله، حتى ظل يراعي غضب الأرباب الدائم من شيء لا يعرفه، تعايش مع الخوف سنوات طويلة حتى أصبح الخوف جزءا من تفاصيل اليوم، والحياة نفسها، وقلما تخلو حياته منه، يترصده في المنام، وفي يوم حاول أن يتخلص من كل ذاك الخوف دفعة واحدة، فصرخ في وجه الأرباب، وغادر إلى بلاده غير خائف، بقي فترة فيها غير أن حياته لم تكن كما كانت، كان ينقصها شيء تعود عليه سنوات طوال، كان ينقصها ذلك الخوف الذي يعطي لحياته معنى!
- الأجانب ليس مثلهم أحد «هس» في هذه الدنيا، يظلون وراء الأفريقي المعوز، حتى يلبسونه شغاباً في أذنه، ويبدأون في تحويل ذلك المحارب كرمح حديدي مستقيم إلى أداة لينة وطيعة، تملأ صدره سلاسل الذهب، وخواتم اليد، يخربون إيقاع جسده نحو الموسيقى كطبيعة يولد بها الأفريقي، فدمدمات الطبول يسمعها وهو في كهفه المظلم، وفي بطن أمه التي تعشق الحركة كلبؤة، يطربها البحث عن طعام لأشبالها فجراً، أحياناً العوز يجعل الإنسان المتمرد في الحياة أسد سيرك يستطعم فضلات اللحم عن نهشه مع جلده، حينها يكتب ذلك الأفريقي نهايته كرجل غير شجاع!
- من علامات الشيخوخة التي لاحظتها مؤخراً على النفس قبل أصدقائي و«سِناي» في العمر، أننا أصبحنا نسوق في الشارع شوي.. شوي، ونظل ننتقد السيارات المارة، والتي تتجاوز عن يميننا وشمالنا، ونحن في الوسط، لا ندري، وكأنها محطة صحيحة للعمر الذي ينقضي بسرعة، ولا نسكت، ولا نكتفي بذلك التمهل، بل صارت لدينا عادة جديدة، وهي «التحرطيم»، ما نخلي سيارة ما نعطيها من فألنا السيئ، ولا نخلي سائقها بعيداً من أحجارنا الصغيرة التي نرسلها كشرر، وكلها احتجاجات مخفية: «وين رايح.. شو كاظنك»، «أهب.. خاطف تقول مَهَبّ»، «لا.. شو مَهَبّ، هذا تقول مشخاط ملبك»، ولا نسكت حتى نرى السيارة «مبنجرة» على بعد خطوات منا، أو يدخن «بونيتها» أو ترتر «مكينتها»!