في السفر تظل شهية القراءة لدي أمتع من أي شيء آخر، إلا حين تتاح الفرصة لك أن تدخل في حوار مع طبقة مثقفة، وعربية مهاجرة، هنا تتسع دائرة الاهتمام، كون الذات المثقفة ذات قيمة جميلة، خاصة حين تحمل هذه الطبقة الهم العربي أينما تغدو وتسافر في رحاب ثقافتها، وقد تجد ما تناقشه بحرية تامة، ومتجردة من الخوف المسيطر عليها منذ أزمان، والرقيب المتغلغل في أنفاسها، وفي بلد كألمانيا ترى الأمر محفزاً في الحديث المتجذر، وهي ذات طابع ورؤية خاصة في التعليم والثقافة.
هذا اللقاء الجميل لم يخطط له، بل من لقاءات الصدف، أن تلتقي أستاذاً جامعياً من جامعة حلب الشهباء، وآخر طبيباً مخضرماً من صنعاء، وكلاهما من عائلة مثقفة، كسائر العائلات المثقفة في أجزاء كبيرة من العالم العربي، لا تغادر إلا حين تصدم بالواقع المجرد من الحرية والمسهب في الظلم الاجتماعي.
فالطبقة المثقفة تغادر أو تهاجر قسراً، بحثاً عن فضاء وحلم، وليست كسائر الطبقات المجتمعية حين تغادر من أجل أن تعيش في رغد افضل من بلدانها الأصل. في قرار ذاتي دائماً ما أنبذ الهجرة من أساسها، فلا كرامة للإنسان إلا في وطنه، تظل رائحة ترابه جميلة وذكية لا يوازيها شيء في الوجود، ولا يضير الترحال من أجل إنعاش الروح وليس للأبد، وإنما للعودة الحتمية، لأن الأرض بحاجة إلى شعوبها، وأبنائها في سائر المجالات الحياتية، من أقلها إلى أبعدها، علماً وثقافة ومنجزاً، لذا عملت ألمانيا على تدفق الهجرة إليها، وخاصة الطبقة المتعلمة، ومن سائر الشعوب، ولم تفعل هذا عبثاً، وإنما لأهداف مستقبلية، ربما لا يتسع هنا المجال لذكرها، وتظل حالة تفاوت العمر ما بين الأجيال، هي المواجهة الأشد لبلد مصنّع كألمانيا.
الحوار بدأ يصوب نحو زمن الانكشاف المجتمعي، وإفرازات وسائل التواصل المجتمعي، فلا مواراة في زمن التقنية الحديثة، ما أدى لظهور خطابات جديدة، خلاف الخطابات الثقافية والدينية السابقة، والتي تقوم على الركائز القائمة، من المنظرين وأصحاب الرسالات الفكرية، ولا القصد انطفاء جذوة العلماء والمفكرين والباحثين، لا بل القصد هنا اتساع رقعة الثقافة والعلم، وبهذا الوعي الثقافي والإدراك الفطري للحياة، أصبح يقابله شيء من الحوار أو التحاور، ولم يعد التنظير والنظريات على اختلافها من المسلمات، بل في هذا التداخل ما بين طبقات المجتمع، يصبح نسيج المعرفة أفضل من قبل، وتتضح رؤى الخطابات الدينية والثقافية، وأن تعود الرسالات الدينية إلى صفاء الفكر ونقاء القيم، وبعيداً عن الرجم بالغيب السياسي والديني، فكلما اتسعت الرؤية الثقافية قل الاحتدام ما بين الطبقات المجتمعية.